13 سبتمبر 2025

تسجيل

«النهضة» نائمة.. بارك الله من أيقظها!

03 أبريل 2024

في رواية «رُد قلبي» التي أبدعها الراحل يوسف السباعي، يتساءل بطل الرواية «الحقيقي» في جملة موحية مؤثرة بالعامية: «هي البلد ده مفيهاش حد يخاف عليها؟». وعلى نفس النسق أتساءل: أليس في هذه الأمة من يخاف عليها؟ أليس فيها من يحمل همها ويفكر من أجل صحوتها ونهضتها؟ هل انقضى القرن العشرون وانقضت معه آمال النهضة؟ هل طرح السابقون كل الأسئلة المفترضة؟ هل سُمح لهم أن يطرحوا كل ما عندهم؟ هل كانت هناك إجابات شافية؟ وهل كانت كلها صحيحة؟ ولماذا لم تتحقق النهضة؟ أم أن روح الأمة قد فاضت وعادت إلى بارئها؟! ربما تكون كل الأسئلة الجوهرية المحورية قد طرحت، في مسيرة البحث عن النهضة المفقودة. لكن المؤكد أن الإجابات لم تكن كلها صحيحة وهو ما أحدث سجالات ونقاشات، متلاحقة بين أقطاب تلك المشروعات النهضوية وبين نقادهم بل وتلامذتهم، كما سبب خلافات وتناقضات كانت يد «الاستخراب» تحركها بلا توقف. أما ما كان صحيحا وواضحا ومباشرا فقد تم وأده ووأد من أتوا به. لم يبدأ سؤال النهضة حوالي القرن العشرين كما قد يظن البعض. ولكنه بدأ مبكرا، أواخر القرن السادس عشر أي قرابة منتصف عمر الدولة العثمانية، في شكل مقترحات، من أوائلها ما قدمه المؤرخ مصطفى علي أفندي للسلطان مراد الثالث، ضمن كتاب سماه «مفاخر النفائس في كفاية المجالس»، وكان نصيبه التجاهل، فزاد الانحدار، وتسارع. ومع تفاقم التدهور ومرحلة الاحتضار بدأ السؤال يتبلور في زمن جيل الأفغاني ومحمد عبده، ما أسفر فكرة الجامعة الإسلامية التي تبناها السلطان عبد الحميد، لكن فتكت بها المكائد، التي كانت تجاوزت حد الإصلاح. وكان الذي أجج روح البحث عن النهضة هو شكيب أرسلان في كتابه « لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» (1930)، والذي صبغ سؤاله النقاشَ ووجه دفته حتى الآن. ثم جاء أبو الحسن الندوي، بكتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، بعده بعشرين عاما، ليضيف أبعادا أخرى للنقاش. فقد طرح أرسلان السؤال الأهم في أوضح صيغة له، وأكد أن الإسلام كان سبب تقدم كل من تبعوه بحق، عربا أو عجما، وأنه لم يكن أبدا سبب تخلفهم. لكنه لم يُجب إجابة كافية، عن السؤال، إذ أنه، كغيره، لم يزد على أن شخّص المرض، وأكد أن سبب التخلف هو التخلي عن الإسلام وليس العكس. وربما تناول أعراض المرض الظاهرة، لكنه لم يتطرق إلى الأسباب الحقيقية، التي أدت لاستمرار المرض بلا علاج منذئذ. ومن أبرز ما يبين كيف أنه أخفق في رصد الأسباب الخفية- ربما لاختلاف الزمن وعدم وضوح الصورة كما هي الآن- عبارة يقول فيها «لماذا سادت الأمة الإنجليزية هذه السيادة كلها في العالم؟ نجيب: إنها سادت بالأخلاق وبالمبادئ». ولا أدري عن أي أخلاق وأي مبادئ كان يتحدث رحمه الله. فقد أظهرت الوثائق وشهادات المؤرخين العرب والأجانب أن الخيانة والخبث والمؤامرة كانت هي العامل الأساس وراء سيادة تلك الدولة الباغية. كما قرر هو نفسه في غير موضع عدم ثقته بالإنجليز، وكان مطاردا منهم ومن معظم حكومات تلك الفترة. وقد جرت محاولات كثيرة لتحقيق النهضة الإسلامية المأمولة، وكذلك لإحباطها، منذ كتاب أرسلان، الذي جاء ردا على موجة التشكيك التي أبرزها كتاب علي عبد الرازق، «الإسلام وأصول الحكم» (1925)، وتابعها د. طه حسين «في الشعر الجاهلي» (1926) قبل أن يتوب الرجلان عن أفكارهما لاحقا. وأحسب أن قلة هم الذين اقتربوا من الإجابة الصحية ومنهم الراحل سيد قطب. فقد رأى بعض الباحثين ومنهم د. سيد القرشي أن قطب اختلف عن معظم من سبقوه وعاصروه. وربما النقطة التي تفرد بها قطب، وهو ما أشرت إليه في مقالات سابقة، هو أن الأمة أسيرة للاحتلال وأن «الغير» أو الغرب تحديدا، لم يتقدم حقيقة وأنهم يعيشون حياة جاهلية، من منطلق أن الحضارة لا تعني مجرد التمدن. لكنه أُعدم ووئدت أفكاره معه. كما اندلعت معارك فكرية حامية حول وسائل النهضة وبأي عقل نباشرها، وهل لدينا هذا العقل أم لا. وحدث هذا عندما انفصل «الإسلامي» عن «العربي» بسقوط الخلافة. ووقعت سجالات غير مباشرة، بين قطب ومالك بن نبي، ومباشرة، مثلا، بين د. محمد عمارة وفؤاد زكريا، اللذين شهدت الدوحة إحدى مبارزاتهما الفكرية، عام 1992. وحتى مرحلة سيد قطب ومالك بن نبي كان السؤال المطروح هو سؤال أرسلان، أما بعد ذلك فقد ظل يزداد ضبابية. وظلت المسألة تتقزم من مشكلة بحث عن نهضة، إلى أزمة بحث عن هوية، إلى تشكيك في الهوية. ثم توقف البحث بالكلية، مع محاولة بعض الضالين والرويبضة، الذين يحركهم المُحتل، التنصل من الهوية والتراث، والسعي لتغييرهما تحت شعار تجديد الخطاب الإسلامي. وهنا تجب ملاحظة أننا في مسيرتنا نحو الانهيار الحالي مررنا بمرحلتين مفصليتين أولاهما «الوهن وحب الدنيا» التي أصابت المسلمين حكاما ومحكومين، بالضعف والتخلف والتوقف عن طلب النهضة. وتلتها مرحلة استغلال «العدو» لهذا الوهن والضعف للانقضاض على الأمة تدريجيا بعد سقوط غرناطة وخروج الإسلام من الأندلس. وخطورة هذه المرحلة هي أن العدو أنشب مخالبه في رقبة الأمة ولم يترك لها أي فرصة للخلاص بل جعلها تسير من تخلف إلى تخلف ومن تراجع إلى تراجع بأساليب كان أهمها انقضاض ذلك العدو على الرؤوس والسيطرة عليها بعد قطع الرأس الكبيرة (الخلافة). تلك هي الإجابة المختصرة التي أغفلها كثيرون ربما لأسباب الاضطهاد السياسي. أما الإجابة الأشمل فهي أن روح الأمة لم تمت ولكنها نائمة، فبارك الله من أيقظها.