12 سبتمبر 2025

تسجيل

مستجدات الأزمة والبطالة

03 فبراير 2013

من المعروف أن معدلات البطالة ترتفع بصورة حادة في فترات الأزمات الاقتصادية، إلا أنها عادة ما تعود إلى مستوياتها الطبيعية بعد انقشاع غبار الأزمة وعودة الأنشطة الاقتصادية إلى سابق عهدها، بل ربما يترافق ذلك مع انتعاش قوي ضمن الدورة الاقتصادية. ومع ذلك، فإن للأزمة الحالية والمستمرة منذ خمس سنوات ظروفها وخصائصها والتي يمكن من خلال تحليلها معرفة أسباب المعدلات المرتفعة للبطالة والتي وصلت في إسبانيا واليونان إلى 26%، إذ إن هذه الأزمة تأتي في ظل ظروف دولية ومخترعات علمية تختلف تماما عما عداها من أزمات، بما في ذلك الكساد الكبير في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي. لقد حدثت الأزمة الحالية في عصر العولمة وانفتاح أسواق وترابط اقتصادات بلدان العالم بصورة لم يسبق لها مثيل، إذ أدى ذلك إلى سرعة حركة رؤوس الأموال وانتقال تأثيرات الأزمة بسرعة الوباء، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع وارتفاع البطالة والتي وصلت لمعدلات قياسية بلغت 11.9% في منطقة" اليورو" في شهر ديسمبر الماضي، إذ استفحلت هذه المعدلات نتيجة عوامل عديدة ميزت ظروف الأزمة الحالية عن غيرها من الأزمات، حيث يمكن الإشارة إلى بعض هذه العوامل. أولا: التقدم التكنولوجي الهائل الذي حدث في العقود الثلاثة الماضية والذي أدى إلى أتمتة وتحديث قطاعات الأعمال، وبالتالي التخلي عن الأعمال اليدوية والمكتبية وأدى بدوره إلى فقدان ملايين من فرص العمل، ففي القطاعين المالي والمصرفي على سبيل المثال، هناك الصراف الآلي وماكينات التعاملات النقدية المتوافرة 24 ساعة، أما خدمات الإنترنت، فقد أحدثت انقلابا في التسوق وتسديد الالتزامات المالية والخدمات بكافة أشكالها، بما في ذلك تحويل الأموال، تلك المهام التي كان يقوم بها الأفراد والموظفون في كافة مرافق الإنتاج والخدمات العامة. كما شملت هذه التغيرات الهائلة أيضاً القطاع الإنتاجي والذي أصبح أكثر اعتمادا على برامج الكمبيوتر، بحيث تقلصت أعداد العمال والموظفين العاملين في مرافق الإنتاج المختلفة. ثانيا، شهد العالم في العقود القليلة الماضية عمليات كبيرة للتحول نحو القطاع الخاص، أو ما يسمى بالخصخصة، والتي تعني من ضمن أمور أخرى التخلص من عدد من الأيدي العاملة وتكثيف الأعمال وتحديثها بالتقنيات الجديدة من أجل تعظيم الأرباح، وهو ما أدى إلى تقلص فرص العمل في الكثير من البلدان. ثالثا، تكثفت عمليات الاستحواذ والاندماجات لمؤسسات كبيرة، بما في ذلك خلال الأزمة، مما يعني تخفيض تكاليف الإنتاج والتشغيل، إذ عادة ما تكون الأيدي العاملة أول ما توجه إليه الأنظار لاقتطاع التكاليف، فالمالك أو المؤسسة الجديدة المنبثقة عن عملية الاندماج تسعى لإثبات بأن ما تم القيام به له ما يبرره من الناحيتين المالية والربحية. لذلك، فإن معدلات البطالة الحالية والمرتفعة للغاية لا ترتبط بظروف الأزمة فحسب، وإنما بجملة من العوامل التي فاقمت منها وأفرزت ظروفا جديدة خاصة بالبطالة ليس من السهل معالجتها أو إيجاد حلول عملية لها. ومع ذلك، فإن التعامل مع تداعياتها والتقليل من حدتها يتفاوت بصورة كبيرة بين البلدان المتطورة والنامية، ففي المجموعة الأولى، فإن مستويات التعليم الراقية تفرز مؤهلات عالية تستطيع التأقلم مع المستجدات وتلبية الطلب النوعي في أسواق العمل في البلدان المتقدمة، علما بأن الزيادة السكانية منخفضة، بل وشبه معدومة في بعض البلدان الأوروبية. أما في بلدان العالم النامي، وإذا ما استثنينا بعض البلدان النفطية الغنية، فإن الوضع في معظمها مختلف تماما، فالتعليم متدن ولا يشمل الجميع بسبب قلة الإمكانات وصعوبة الوصول للمناطق الريفية النائية، مما يخلق فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم المتواضعة ومتطلبات الاقتصادات الحديثة المعتمدة على التقنيات والتعاملات الإلكترونية. وذلك إلى جانب الزيادة السكانية المفرطة والتي تزيد الأعباء وتؤدي إلى تدني مستويات المعيشة والخدمات بشكل عام، بما فيها التعليمية وتفرز سنويا طوابير جديدة من العاطلين والأيدي العاملة غير المؤهلة. لا ندعي بأن حل هذه المعضلات في متناول اليد، بل على العكس هناك تعقيدات اقتصادية واجتماعية، بل وحتى دينية تتعلق بالتعليم والحد من الزيادات السكانية، مما يعني أن التوافق بين عصر الإنترنت والعولمة وحل بعض تداعياتها، كالبطالة أمر قابل للمرونة والتكييف في البلدان المتقدمة، إلا أنه أمر خطير وقابل للتفاقم وإفراز قلاقل اجتماعية وتدهور معيشي في البلدان النامية التي تعاني من مشاكل هيكلية معقدة. وبحكم ظروف العولمة المتشابكة، فإن المطلوب أن يكون هناك نوع من التنسيق الدولي ليس للمساعدة فقط، وإنما لتبادل التجارب والعمل على رفع مستويات التعليم واتباع الوسائل العلمية والتثقيفية لرفع مستوى التعليم والحد من الارتفاع المفرط للزيادة السكانية، إذ إن تفاقم الأزمات في الجنوب الفقير سوف لن تقتصر تداعياته كما تثبت التجربة على هذا الجزء من العالم، وإنما ستمتد لتشمل بلدان الشمال المتقدم والغني في موارده البشرية والمادية.