13 سبتمبر 2025

تسجيل

عن الاستبداد الإعلامي.. متى توضع «فيسبوك» وأخواتها تحت وصاية دولية؟

03 يناير 2024

عندما بدأت دراسة الإعلام، قبل 40 سنة ونيّف، علمونا أن الصورة الثابتة بألف كلمة وأنها لا تكذب. ثم دارت الأيام وتطورت التكنولوجيا، وظهر «الفوتوشوب»، واتضح أنها يمكن أن تكذب وتفعل كل الخبائث. بعدها قيل إن الصور المتحركة (الفيديو) لا تكذب لأنك ترى الحدث بعينيك. لكن تطورت التكنولوجيا مجددا، وظهر «الفيديو إدتنج» و»الديب ويب»، واتضح أن صور الفيديو يمكن أن تكون أكثر كَذبا وتضليلا من الثابتة. ثم استمر التطور التكنولوجي وتحول الإعلام كله إلى صناعة يمكن، للبعض، أن يجعلوها قائمة على الكذب بالكلية، بما يجعل دعاية جوزيف جوبلز أمامها نقطة في بحر. وقديما قالوا لنا أيضا إن وسائل الإعلام في الدول «المتقدمة» حرة لا تكذب. ثم مرت الأيام واتضح أنها أكثر كذبا وتزويرا من مثيلاتها في ما يسمى الدول الاستبدادية، واتضح أيضا أنها هي التي صنعت كل تاريخ الكذب والأساطير المؤسِّسَة لأوهام ما يسمى حرية الرأي وحق المعرفة، بل وأنها كانت ومازالت حجر الأساس في شيء أكبر وأخطر هو «صناعة الاستبداد» أو بكلمة أدق «الطغيان». فقد قام الطغيان السياسي في أساسه على الاستبداد الإعلامي واحتكار تشكيل الفكر، منذ «أنا ربكم الأعلى»، و»ما أريكم إلا ما أرى»، إلى يومنا الحالي الذي يتم فيه تطبيق هاتين الحالتين حرفيا، تقريبا، في أغلب دول العالم، وأحيانا بالمفردات ذاتها أو قريبا منها. ويمكن القول، باختصار، إن صناعة الاستبداد الإعلامي تتم بأمور ثلاثة رئيسية، هي الاحتكار، والإغراق، والتشويه (بكل أشكاله من كذب وتزوير وتضليل وحجب،...إلخ». وقد تحدثنا سابقا عن خطورة الاحتكار الذي تُجسده العولمة في كل شيء، سياسيا واقتصاديا وإعلاميا. وهنا تحتكر قوى معينة، على علاقة قوية بأباطرة رأس المال، وسائل الإعلام المؤثرة في العالم، «في عملية تزاوج حقيقي بين دهاقنة المال والسياسة والإعلام»، بحسب تعبير الكاتب الكندي بول نيسبت-لاركنج في كتابه، السياسة،المجتمع والإعلام. ولمقدم البرامج الأمريكي، ريك وايلز، المعروف بانتقاده للسياسة الأمريكية، مقولة كاشفة تشرح طبيعة الطغيان السياسي والاستبداد الإعلامي، معا، يقول فيها: إذا أردت أن تعرف من يحكمك كإعلامي فانظر من تخشى غضبه، فإذا لم تكن تخشى (بايدن) رئيس الدولة فهو ليس من يحكمك... وبما أنك لا تخشى إلا اللوبي الصهيوني فالمعنى أن ذاك اللوبي هو الحاكم الفعلي». وبما أنه لم يعد خافيا تحكم القوى الصهيونية في سياسة واقتصاد وإعلام العالم، بدرجة كبيرة، من خلال عدد محدود من الشركات العملاقة، فلا يُستغرب عزف وسائل الإعلام أو أغلبها على نغمة واحدة، هي نغمة الكذب والتضليل. وتاليا في أُسس صناعة الاستبداد، يأتي الإغراق. وبات الجميع يعرف سياسة وسائل الإعلام في التركيز على قضايا بعينها بكثافة لا تسمح لأي محتوى آخر بالظهور إلا نادرا. ولتوضيح الأمر سنأخذ مثالا من مكان يدّعي الديمقراطية والعدالة وهو أبعد ما يكون عنها. المثال أوردته الكاتبة اليزابيث دوسكين في مقال لها بالواشنطن بوست حول كيفية تلاعب الكيان بمشاعر الرأي العام هناك عن طريق إغراق منصات الإعلام الجديد بأخبار كاذبة عن هجمات مروعة وإنذارات بشُح خطير في الموارد دفعت الناس لتخزين المواد الأساسية وزرعت الخوف والكراهية تجاه الآخر (الفلسطينيين). الكاتبة نفسها ضربت مثالا آخر على صناعة التشويه والتضليل بتقرير (منتصف 2021) كشفت فيه عن أن فيسبوك تُسخر الذكاء الصناعي لحجب النشطاء المدافعين عن فلسطين مثلما تحجب المدافعين عن حقوق السود. أما عمليات التشويه الإعلامي فقد رصدها تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود»، الأحدث، للعام المنصرم، والذي فضح ضلوع فاعلين سياسيين في حملات تضليل واسعة النطاق في بلدانهم، بشكل مُنظم ومنهجي، حيث يجد الجمهور نفسه تائهاً بين المعلومات الصحيحة والخاطئة، وبين الحقيقة والأكاذيب. كما أكد التقرير أن التطور المذهل الذي شهده «الذكاء الصناعي التوليدي» أحدث اضطرابات كبيرة في الحقل الإعلامي، المنتهك أصلاً، بتأثيرات ثورة «ويب 2.0»، التي بدأت قبل نحو عقدين، وأوجدت استخدامات الانترنت الانحرافية الحالية. ومن أخطر ما أكده التقرير، بحسب تحقيق لمشروع «قصص مُحرمة» التابع للمنظمة، أن الذكاء الصناعي يتلاعب بالمحتوى ويعيد صياغته بطريقة تفتقر للدقة والموثوقية. وأشار التقرير إلى أنه على العكس، مما رُوِّج وصدقه كثيرون، فإن إلون ماسك الذي اشترى «تويتر» ومنحها اسما شيطانيا هو «X» ذهب أبعد ما يكون في تشديد الرقابة، ما يُحوَّل وسائل التواصل إلى «رمال متحركة» تبتلع الحقيقة. وإذا كانت وسائل التواصل الحديثة باتت تنتشر على نطاق لا تصل إليه حتى أعتى وأقوى المؤسسات الإعلامية والسياسية الدولية فقد وجب التوقف أمام هذه الظاهرة وتقنينها ووضع ضوابط لعملها بحيث لا يُسمح للشركات المُشغِّلة لها بالطغيان وتمرير ما يناسبها وحجب «الآخر». فالجميع تابع كيف حجبت منصات مثل فيسبوك وX حسابات أعداد لا تحصى من المؤيدين لفلسطين خلال حرب الإبادة الجارية وحرمتهم حقهم في إظهار بشاعة الكيان الصهيوني. وإذا كان الأمل في إنهاء الطغيان السياسي يبدو بعيد المنال فلا أقل من محاولة وقف الاستبداد الإعلامي والمطالبة بتقديم فيسبوك وأخواتها لمحاكمة حقيقة عادلة ووضعها تحت رقابة دولية محايدة، وربما تحت وصاية دولية، كونها باتت كيانات تتجاوز حدود الدول. فعلى قدر السهولة والانتشار اللذين وفرتهما وسائل الإعلام الجديد في التواصل ونقل الأخبار تأتي الخطورة من ترويج المعلومات الكاذبة والمضللة، التي لا تقل فتكا عن أسلحة الدمار. وقبل أكثر من نصف قرن قال مالكوم إكس، «إذا لم تنتبه ستجعلك الصحافة (الإعلام) تكره المظلوم وتحب الظالم»، وصدق كلامه لعقود. لكن أحسب أن الكثير من الناس قد انتبهوا الآن، وبقي أن تكون لانتباهتهم أيادٍ وأسنان.