14 سبتمبر 2025

تسجيل

التنظير عندما يحتك بالواقع!

03 يناير 2016

قبل أيام تحاورت مع أحد الأشخاص على الفضاء المفتوح، ودار بيني وبينه نقاش هادئ، ومما قاله: إن العلمانية، هي التي أسست للعدل والمساواة وتطبيق حقوق الإنسان على أرض الواقع الإنساني، وأن غيرها من الأفكار لم تكن كذلك كما فعلته العلمانية، وفي مخلص ما قلت له تعقيباً على هذا الكلام، أن الذي أراه ـ كما قاله ـ ليس دقيقاً في عمومه، فإذا كان القول صحيحا ونهائيا، فلماذا لم يتم تطبيق العلمانية على الواقع الفلسطيني منذ ما يقرب من سبعين عاماً حتى الآن، فالشعب الفلسطيني، شعب سلبت أرضه، وانتهكت حقوقه، وقهر وسجن، ويقتل يوميا هذه الأيام، لشبهة أن معه سكيناً؟! فالكلام المعسول عن العلمانية نريده في الواقع الفلسطيني الراهن، مع أن الغرب العلماني يستخدم الفيتو لمنع قرار مجلس الأمن لتحقيق المساواة والعدل ورفع الظلم، عن الفلسطيني!! كما الفكر العلماني كما يقال عنه، وما تبعه من آراء رائعة لحقوق الإنسان والعدل والتعدد والحق في الحرية والديمقراطية... إلخ، كما صاغها فلاسفة التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر، لم تطبق واقعيا، ففي هذا القرن وما تبعه تم اجتياح العالم العربي والإسلامي، وانتهكت حقوقه ونهب، وزاد تخلفه.. إلخ، فالواقع الذي تم عكس ما قاله هذا الشخص، ربما سمع وقرأ في التنظير الذي يقال عنه، وليس شيئا تم على أرض الواقع، ولربما العلمانية نجحت في الغرب، لأن الديانة المسيحية، تتأقلم من هذه الرؤية الفكرية، وهذا حقهم واختياراتهم الثقافية.والحقيقة أن هذا الرأي يخالف الكثير من تطبيقات العلمانية التي تختلف تطبيقاتها باختلاف الفلسفات والأفكار التي يحملها أصحابها وهذه مسألة معروفة سواء لدى الفلسفة الليبرالية، أو النظم الشمولية، وحتى لا يعتقد الكاتب، هذا الكاتب، أو غيره أننا نقول كلاماً جزافاً مرسلاً، فإن العلمانية تغاضت عما طبقته الأنظمة القمعية كالفاشية والماركسية والكولونيالية في مراحل مختلفة لا يسمح المقام بشرحها لكنها لا تخفى على المتابع الحصيف! وهذا ما يفسّر ـ كما يقول د/ صبحي الصالح ـ في كتابه [ الإسلام ومستقبل الحضارة ] " لماذا سايرت العلمانية، وما انفكت تساير عدداً من الأيديولوجيات، ولماذا تقف أحياناً كثيرة إلى جانب اليمين، بل حتى اليمين المتطرف، وأن توهم الناس أنها لا تلتقي إلا مع أقصى اليسار!".ولذلك فإن العلمانية لم تكن حركة منافحة عن الديمقراطية، ما قال صبحي الصالح، وإنما كانت أقرب إلى الفكرة الانتهازية التي تبرر ما يفرضه الواقع القائم، ودليلنا على ذلك أن العلمانية في تركيا الكمالية، غير العلمانية في أوروبا التي خرجت منها أساسا، وعلمانية الولايات المتحدة، غير علمانية روسيا وشرق أوروبا، بل إن العلمانية في بريطانيا غير العلمانية في فرنسا، والشواهد متوافرة لا يتسع المقام لسردها.وفي مقال لأحد الكتاب منذ فترة، وهو الكاتب كرم الحلو قال: إن محمد عابد الجابري ربط العلمانية بالإلحاد وقوله إن العلمانية إنما "أريد بها التعبير عن حاجات معيّنة بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات"، لكن هذا الاقتباس مخالف مفهوما وطرحا لما قاله الحلو، فالجابري يقصد أن نزعة التتريك قابلتها ردة فعل من جانب المسيحيين العرب بالدعوة إلى العلمانية. والجابري يرى أن مطالب الاستقلال موضوعية لكن أن تتوجه إلى الديمقراطية والعقلانية، وليس إلى العلمانية لأنه لا توجد كنيسة في الإسلام لفصلها. ولا أدري لماذا قوّل كرم الحلو محمد عابد الجابري ما لم يقله أبداً، سواء في هذا الكتاب أو في كتبه السابقة التي أشار فيها أيضا إلى قضية العلمانية. بل إن الحلو اجتزأ بعض الفقرات وترك بعضها الآخر. فالجابري يقول بعد الفقرة التي اقتبسها الحلو إن الحاجة إلى الاستقلال عن "الترك" في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلاً، إنها مطالب، كانت ولا تزال، مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل مشروعيتها أيضاً عندما يعبّر عنها بشعار ملتبس كشعار "العلمانية". من أجل هذا نادينا، منذ الثمانينيات من القرن الماضي بضرورة استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية"، فهما اللذان يعبّران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي". فأين هي مقولة الجابري للعلمانية بأنها مرتبطة بالإلحاد؟! التجربة الإسلامية، إذن مختلفة تماما عن تلك التي في الغرب، فالإسلام كما يشير الباحث المصري، حسين أحمد أمين في كتابه [دليل المسلم الحزين] ـ وهو بالمناسبة لم يكن يعادي العلمانية في كتاباته ـ قال: "إن الإسلام في صدره لم يعرف كنيسة أو نظام رجال الدين، ولا كانت في دولته وقتها طبقة منهم متميزة عن غيرها". فالأمور الدينية والدنيوية واحدة لا تمايز بينها، وإمام الجماعة في الصلاة هو قائدها في الحرب. ولا اختلاف في زيّ يحكمه اختلاف المنصب، والقرآن كتاب مفتوح، بلسان عربي مبين، بوسع الكافة أن تقرأ فيه. ولا كان ثمة من ادعى أن التفسير حكر عليه، وكان النظر في علوم الدين مرحبا به، مشجعا عليه. كما كان الاجتهاد في أموره متاحا لكل من قدر عليه، كذلك كان الإسلام أكثر الأديان اتفاقا مع المنطق والعقل وطبائع البشر، وكانت تعاليمه أقل التعاليم حاجة إلى الدخول في صراع مع النتائج التي تتوصل إليها العلوم، وبالتالي فإن السلطة في دولته لم تسع إلى الحد من حرية العلماء في أبحاثهم، ولا كانت تنكل بهم بدعوى خطر ثمار علمهم على العقيدة". فليس صحيحاً أو منطقيا أن تربط العلمانية بالديمقراطية، فالعلمانية مسألة غربية تاريخية لظروف الصراع بين الكنيسة ورجال التنوير في ذلك العصر، لكن عالمنا العربي الإسلامي لم يوجد فيه مثل هذا الصراع تاريخيا ولم تشن حرب على العلم والتطور والتقدم، وتلك قضية تستحق الفرز والانتقاء والمراجعة.