29 أكتوبر 2025
تسجيللما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فهذا يعني أن الأمة العربية حينها بلغت شأناً عظيماً في مكارمها بدليل قوله (لأتمم) مما يوحي أن هذه المكارم اقتربت من الكمال برغم سلبياتهم كالشرك بالله والسلب وغيرها. وأذكر هنا قول القائد العسكري الفذ المهلب بن أبي صفرة رحمه الله: عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه؟، ولعمري لا معروف يأسر الأحرار مثل الكرم كيفما تعددت أوجهه فكرم المال وكرم الجاه وكرم الأخلاق وقس على ذلك. ولذلك فأعظم وأعز ما افتخر به العرب هو الكرم، فجعلوه على رأس فضائلهم، بل إنهم قدموه على الشجاعة حتى سمّوا فضائلهم ومفاخرهم (مكارم) لعظيم قدره عندهم برغم عشقهم لباقي مكارمهم العظيمة إلا أن الكرم كان ولا يزال وسيظل هو رأس فضائلهم حتى قيام الساعة. ولن نتطرق هنا لحاتم الطائي الذي ربما يعرف عنه القارئ الكريم ما يفوق علمي المتواضع، ولكن انظر معي هذا الإبداع العجيب من الحطيئة في رائعته عن وصف منتهى الكرم والتي مطلعها (وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل... بصحراء لم يعرف بها ساكن رسما)، إذ يروي فيها الشاعر قصة رجل فقير يسكن الصحراء فما راعه إلا ضيف جاءه فجزع الفقير لأنه لا يجد ما يكرمه أو يضيفه به حتى كاد أن يذبح أحد أبنائه ليكرم ضيفه، ولكن لطف الله ينقذه من ورطته بظبية سمينة كثيرة الشحم أكرم بها الضيف ونجّى الله بها الابن فقالت العرب (الكريم مُعان). ولا ننسى لاميّة حسان بن ثابت الباذخة في مدح الغساسنة لما قال (يُغشون حتى ما تهرُّ كلابهم... لا يسألون عن السواد المقبل)، يعني أنه من كثرة ضيوفهم، اعتادت كلابهم على المنظر فلم تعد تنبح بل ولا حتى تهرّ لرؤية الضيوف، ثم إن القوم لا يسألون عمن يأتيهم فإن كان ضيفاً أغدقوا عليه وافر كرمهم وإن كان عدواً قاتلوه بشجاعة، فانظر كيف قدّم شاعر الرسول الكرم على الشجاعة. ونحن هنا لا نقصد الإفراط في الكرم، لأن الفضيلة تقع بين رذيلتين، كما قال بعض الفلاسفة، ومن ذلك ما فعله غالب بن صعصعة (والد الشاعر الفرزدق) في قصة يطول سردها حينما أوصله كرمه المجنون إلى أن ركب فرسه وانطلق بين إبله يضربها بسيفه وهو يصيح: عقراً عقراً وهي تفر هاربة حتى عقر من إبله أكثر من مائة ناقة ليطعم قومه وبني عمه، بينما كان يكفيهم ناقة واحدة فقط، حتى أن الخليفة أراد أن يعاقبه على هذا السفه لما سمع به ولكنه فر واختفى. وعلى الطرف الآخر أيضاً، هناك عدو المكارم كلها، وناسفها، وقامعها، وماحيها فلا ينفع معه أي فضيلة كانت، وهو البخل الذي يقبع في أحط وأحقر درجات الذم ولا يعرف العرب أحقر شيء من البخل، ولا يجدون للبخيل عذراً ولو انطبقت الخضراء على الغبراء ومهما كان الأمر فلا يساومون في ذمه ولا حتى ذم من لم يذمه لدرجة أنهم اعتبروا أهجى بيت قالته العرب كان عن البخل، وذلك في قول الأخطل ( قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم.. قالوا لأمهم بولي على النار) ولا يسع المجال لشرح هذا البيت الدامغ القاصم المبالغ في فحش الهجاء كما اشتهر شعر العصر الأموي. وعلى أي حال وبرغم تمسك العرب والمسلمين بالكرم وحفاظهم على مكانته بين الفضائل منذ زمن الجاهلية وصدر الإسلام إلى يومنا هذا إلا أنه خرج علينا في هذه الأيام نوعية عجيبة غريبة، عجزت بهم صفاتهم عن اللحاق ولو بساقة ركب الأكارم الأفاضل فلم يجدوا ما يحشرون أنفسهم معهم إلا أن يتمنن أحدهم على أحرار الناس بما وهب فينتهي به الأمر إلى أن يوقع نفسه في مكان لا تعرفه العرب لشدة سفالته ووالله لم نسمع عن عربي جاهلي وثني يعبد الأصنام ويشرب الخمر وقد تمنن أو امتن على أحدهم يوما ما أو ذكره بفضله عليه، فما بالك بمن يمتنّ على الناس وهو لا فضل له من الأساس؟. لذلك فلا عجب أن قال من لا ينطق عن الهوى في صحيح البخاري: (إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعُودُ فِي عَطِيَّتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ فَأَكَلَهُ). ويعلق ابن حجر قائلا (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ اَلسَّوْءِ) أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها قال تعالى (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلى)، ولعل هذا أبلغ في الرجز عن ذلك وأدل على التحريم مما لو قال مثلا: لَا تَعُودُوا فِي اَلْهِبَة. فهل من قارئ مبلِّغ أوعى من كاتبٍ مسترسل؟. [email protected]