11 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما تعيق وسائل الإعلام الديمقراطية

02 نوفمبر 2019

يجد المواطن الجزائري نفسه في حيرة ودهشة وهو يشاهد النشرة الرئيسية للأخبار عند الساعة الثامنة مساءً. تقارير عن انتخابات 12 ديسمبر وشهادات لمواطنين من مختلف الأعمار تؤكد أهمية الانتخابات وواجب التصويت والذهاب إلى صناديق الاقتراع، حيرة ودهشة لأن ما شاهده في النشرة ويشاهده كل مساء خلال الأسابيع الماضية شيء، وواقع الحراك كل يوم جمعة ومسيرات الطلبة كل يوم ثلاثاء شيء آخر. مئات الآلاف من الجزائريين ترفض الذهاب للانتخاب يوم 12 ديسمبر وتطالب بالتخلص من بقايا نظام بوتفليقة، والتلفزيون الرسمي الجزائري يصر على أن الجميع مع الانتخابات والحل الوحيد للأزمة هو تنفيذ تعليمات قائد الأركان أحمد قايد صالح الذي سكن التلفزيون واصبح هو الآمر والناهي والمدبر والحاكم في البلاد. ما يعيشه المشاهد الجزائري هذه الأيام مع التلفزيون الرسمي تعيشه مئات الملايين من المشاهدين في أرجاء المعمورة: الواقع شيء وما تقدمه وسائل الإعلام شيء آخر. لا يتلقى الجمهور صورة كاملة في غالب الأحيان عن المشهد السياسي، بل يحصل بدلا عن ذلك على سلسلة منتقاة للغاية من الومضات أو اللمحات وتكون النتيجة في النهاية تشويه الواقع، وحسب والتر ليبرمان هناك تضارب بين الديمقراطية والممارسة الإعلامية اليومية، حيث إن وسائل الإعلام لا تقدر على تأدية وظيفة التنوير العام، لا تستطيع وسائط الإعلام تقديم الحقيقة بموضوعية، لأن الحقيقة شخصية وتستوجب الكثير من الدقة والتمحيص والتفسير والتأكد، الأمر الذي لا تسمح به صناعة الأخبار التي تتطلب السرعة الكبيرة والمواعيد الدقيقة التي لا ترحم. فحسب والتر ليبرمان، الجمهور لا يحصل على صورة كاملة ووافية وشاملة للمشهد السياسي؛ بل يتلقى بدلا من ذلك مجموعة أو سلسلة من الومضات أو اللمحات التي تفبرك هذا المشهد السياسي أكثر مما تعكسه. وبذلك يفبرك الواقع ويُقدم للرأي العام بالتناغم والتناسق مع مصالح القوى السياسية والاقتصادية في المجتمع، يستنتج ليبرمان أن وسائل الإعلام تعيق الديمقراطية أكثر مما تخدمها لأن الديمقراطية تقوم على السوق الحرة للأفكار وعلى الرأي والرأي الآخر، الأمر الذي فشلت وتفشل وسائل الإعلام في تحقيقه على أرض الواقع. بالنسبة لرجال السياسة تعتبر وسائل الإعلام الوسيط المحوري والإستراتيجي للوصول إلى الجماهير العريضة للتأثير فيها وتكوين وتشكيل الرأي العام الذي يتبنى آراءهم وأفكارهم ووجهات نظرهم وبذلك برامجهم. فالسياسي الناجح هو ذلك الذي يحسن التعامل مع وسائل الإعلام والذي يعرف كيف يمرر خطابه السياسي عبر وسائل الإعلام بلباقة وبمهنية عالية، فالعلاقة بين وسائل الإعلام والحياة السياسية تشكل عنصراً هاماً من عناصر فهم الرهانات المرتبطة بتطور الديمقراطيات العصرية. تؤثر وسائل الإعلام في الحكام والمحكومين، فوسائل الإعلام تغير القوانين التقليدية للعبة الديمقراطية. فسمعة السياسي تحددها بدرجة كبيرة الصورة التي يكونها ويصنعها لنفسه من خلال وسائل الإعلام، هذه الصورة يجب أن تكون متناغمة ومتناسقة مع الصورة المقدمة والصورة التي تدركها الحشود والجماهير، فإدارة الصورة تعتبر ظاهرة رئيسية ومحورية في جعل الحياة السياسية ظاهرة إعلامية، أي تتناولها وتناقشها وسائل الإعلام باهتمام بالغ وبتركيز كبير، من جهة أخرى نلاحظ أن التغطية الإعلامية لنشاط السياسيين وعملهم اليومي تترك آثاراً كبيرة على الجماهير والمتتبعين للفعل السياسي الذين يقومون بمتابعة نشاط السياسيين ومدى تطابق أقوالهم مع أفعالهم. وحسب ليبرمان Lippmann فإن الأخبار لا تعكس الحقيقة بل تفبرك الواقع: الأخبار والحقيقة ليسا نفس الشيء، ولابد من التمييز بينهما، فوظيفة الأخبار هي الإشارة إلى حادثة، ووظيفة الحقيقة هي إظهار الحقائق المخفية وربط الواحدة منها بالأخرى، ورسم صورة للحقيقة يستطيع الناس أن يتصرفوا بناء عليها. إن دراسة علاقة وسائل الإعلام بالسياسة تقودنا إلى مساءلة علاقة تطور وسائل الاتصال بتشكيل الرأي العام، وإلى أي مدى تساهم وسائل الإعلام في إيجاد فضاء عام لمناقشة الأفكار والآراء والأطروحات من قبل الجميع؟ أم أن هناك قوى محدودة جدا تسيطر على الفضاء العام وتحتكره لنفسها لتمرير أفكارها ووجهات نظرها. ما هي العلاقة بين وسائل الإعلام واستطلاع الرأي العام؟ بالنسبة لبيار بورديو Pierre Bourdieu الرأي العام لا يوجد وأن الرأي العام الذي يدعيه أصحاب مراكز سبر الآراء والصحافيون ما هو إلا إشكاليات متعلقة بمصالح سياسية تقوم أساسا على عدد معين من المسلمات المغلوطة والخاطئة. أولا باستطاعة أي شخص أن يكوّن رأيا حول موضوع؛ ثانيا كل الآراء تكتسي نفس القيمة؛ وأن هناك تفاهما حول الأسئلة التي تستحق الطرح، فنتائج سبر الآراء التي تبثها وتنشرها وسائل الإعلام، ما هي في حقيقة الأمر، سوى فبركة اصطناعية لمنتج تم استخراجه من حسابات إحصائية لجمع آراء أشخاص لفرض وهم اسمه الرأي العام، تثير أطروحة بوردي تساؤلاً كبيراً جداً وخطيراً في نفس الوقت، يتعلق بالمصداقية العلمية لاستطلاعات الرأي العام وبثباتها وبمفهوم الرأي العام كمصطلح وكظاهرة اجتماعية وسياسية. أصبحت وسائل الإعلام، على حد قول بوردي وشابان، محكمة الرأي حيث أصبح الواقع يتحدد ويتلخص فيما تنقله وسائل الإعلام وتناقشه وتحلله وفق ما يراه الصحافيون ومحترفو صناعة الرأي العام صالحا ومؤهلا لأن ينقل إلى عيون ومسامع القراء والمشاهدين والمستمعين. وحسب نظرية تحديد الأولويات Agenda Setting فإن وسائل الإعلام من جرائد ومجلات ومحطات إذاعية وتلفزيونية تحدد للجمهور ماذا يقرأ ويسمع ويشاهد ليس هذا فقط وإنما تحدد له كذلك كيف ينظر ويحلل وفي أي إطار يدرك ويفهم الأحداث والوقائع التي تُقدم له. توجد علاقة متبادلة بين الرأي العام والفضاء العام، فالرأي العام كمصطلح ظهر في القرن الثامن عشر. من جهة أخرى أدت التغييرات السياسية المترتبة على نهاية الملكية المطلقة إلى ظهور مصطلح الفضاء العام. نشأ الفضاء العام إذن في القرن الثامن عشر في الصالونات والمقاهي والنوادي والدوريات التي كانت تمثل حلقة الوصل بين القراء والمؤلفين والمستمعين أي بعبارة أخرى النخبة المثقفة القادرة على الحوار والنقاش. وبهذا المنطق كان الشعب مقصى من الفضاء العام نظرا لعدم قدرته على مناقشة المسائل الأدبية والفنية والسياسية والاقتصادية وغيرها. هذا الفضاء بدأ ينهار شيئا فشيئا في القرن العشرين، حيث انتقل الأمر من جمهور يناقش الثقافة إلى جمهور يستهلكها، إن تطور ثقافة الاستهلاك والتسويق والإعلان وبعد ذلك العلاقات العامة أدى إلى تدهور وتفكك وانهيار الفضاء العام المعاصر. أدى المجتمع الجماهيري والصبغة المركنتيلية التجارية والتسويقية لوسائل الإعلام وكذلك النموذج العصري للعلاقات العامة إلى تغيير الفضاء العام. ما هو دور وسائل الإعلام؟ هل هو دعم الفضاء العام حيث يتبادل أفراد المجتمع أفكاراً وأحكاماً وحججاً رشيدة وعقلانية ومنطقية من أجل الصالح العام، أم أن دور وسائط الإعلام، كما يرى "هابرماس" هو تذويب القيم الديمقراطية والقضاء عليها؟. [email protected]