11 سبتمبر 2025

تسجيل

عصور الظلام في الإسلام.. كيف تشكل عقلنا الحديث؟ (4)

02 أغسطس 2023

كان التشويه الذي أثر في تشكيل عقلنا الحديث له بدايات مبكرة منذ الأيام الأولى للإسلام، وتمثل ذلك في الأراجيف والأضاليل التي اتُهم بابتداعها كعب بن ماتع الحميري المسمى بكعب الأحبار، وتابعه عبد الله ابن سبأ المسمى بابن السوداء، وكلاهما أسلم بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وكان ممن تأثر بهؤلاء خلق كثير غَلوا في التعبد الشكلي وانقلبوا على المسلمين فيما بعد، وخاصة في موقعة النهراوين، ثم في الفتنة الكبرى، وهو ما سنتوقف معه لاحقا. لكن قبله يجب أن نحدد، بما يمكن من دقة، البداية الفعلية للانهيار في صرح الإسلام. وذكرت سابقا أن تلك اللحظة، عندي، كانت لحظة وفاة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، واكتمال الدين. إنها تلك اللحظة التي انقطع فيها الوحي بين السماء والأرض، وأصبح المسلمون موكولين إلى أنفسهم فقط في سنة التدافع مع الغير. فطالما كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) موجودا كانت قوة الدفع موجودة وتتجدد، وقادرة على التغلب على أي دفع مضاد. ولكن بوفاته انقطعت تلك القوة. وباتت القوة الدافعة متذبذبة ومتراجعة حينا بعد حين، إلا من استفاقات محدودة. فما الأسباب الحياتية العملية التي نتج عنها بدء سقوط مسيرة الإسلام بمجرد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ لا شك أن أحد أهم تلك الأسباب، سيكون غياب المرجع الحاسم الفاصل، فطالما كان موجودا (صلى الله عليه وسلم)، كان يحسم الخلاف ويئد الفتنة في مهدها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها أنه وأد فتنة المهاجرين والأنصار يوم تشاجر فتيان منهما، خلال غزوة بني المصطلق، في السنة الخامسة للهجرة، فاستنجد كل بقومه فسارع إليهم الرسول الكريم بقوله «دعوها إنها منتنة» أي الفتنة ودعوى الجاهلية. ويبدو أن قوى التشويه بذلت جهودا خارقة خلال تلك الغزوة للنيل من وحدة المسلمين إذ شهدت أيضا حادثة الإفك التي استهدفت الرسول نفسه، لكن لأنه الرسول فقد تحولت الفتنة إلى درس يتعلم منه المسلمون عدم الخوض في الشائعات والأعراض. كما أنه صلى الله عليه وسلم عالج تململ الأنصار يوم حنين في السنة الثامنة للهجرة، عندما أغضبهم عدم حصولهم على شيء من الغنائم، وهي حادثة كانت كفيلة بإسالة دماء كثيرة لولا وجود النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم). بل إن الإرجاف كان متقدا على عهد رسول الله ومنه أراجيف ابن سلول، والذين قالوا «إنما نحن مستهزئون»، والذين سخروا من الرسول والمؤمنين في غزوة تبوك، وكلهم نزل فيهم قرآن يفضح ما قالوا ويوقفهم عند حدهم. لكن حينما انتقل الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى جوار ربه، أطلت الفتنة برأسها ولم تسحبها مرة أخرى، وقد ظهر ذلك مباشرة يوم وفاته عند اختيار الخليفة الأول، فقد دب الخلاف بين الأنصار والمهاجرين على الأحقية بالخلافة، وعندما حُسم بأخذ البيعة لأبي بكر، أشاع المرجفون أن عليا لم يبايعه، وهي الفتنة التي بدأت وقتها ولم تنته للآن. هنا نخلص إلى أن الغلو المتعمد الذي أثارته أطراف معينة تدور حول ابن سبأ ذاك هي التي أحدثت بذرة تشويه الفكر الإسلامي وتفريق المسلمين أحزابا وجماعات متطاحنة. وقد كانوا بدأوا بالإرجاف منذ سألتهم قريش أنحن أهدى سبيلا أم محمد، فكذبوا وأيدوهم وهم يعلمون أنهم كاذبون. وقبل أن نكمل مع الإسلام نشير إلى أن فكرة الغلو نفسها هي التي استخدمها أسلاف ابن سبأ لتشويه المسيحية من خلال ابتداع فرية تأليه المسيح وأمه مريم البتول، حيث تذكر مصادر التاريخ أن من يسمى بولس الرسول، وكان يهوديا محاربا لاتباع المسيح ثم تحول إلى مسيحي، هو الذي أدخل فكرة تأليه المسيح على النصرانية. بل يذكر ابن كثير أن الغلو في عيسى لم يقف عنده بل تعداه إلى أتباعه الذين تم ادعاء العصمة لبعضهم. وبنفس الطريقة تقريبا، حاول ابن سبأ إشاعة فرية ألوهية علي وسبقها بفرية عصمته ونبوته ووصايته. لقد كان الابتداع أو الغلو أو تشويه الفكر، دائما، السبب الرئيسي وراء تدمير وانهيار الأمم كما سيتبين معنا لاحقا. وفي حالتنا الإسلامية كان هو سبب ظهور الأفكار والطوائف المخالفة للسنة، فظهرت فرق تأثرت بالتشويه الفكري المسمى بالفلسفة فقدسوا العقل وجعلوه حاكما على الوحي بل قدسوا الفلاسفة وقدموا كلامهم، أحيانا، على كلام النبي والصحابة. وقد جاء في كتاب تلبيس إبليس لأبي الفرج بن الجوزى إن أصول الفرق الضالة ستة هى الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية، وتفرعت عنها فرق كثيرة بجانب أهل السنة والجماعة ليصدق عليها حديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم )، تفترق أمتى إلى 73 فرقة، وإن اختلفت رواياته. وللحديث صلة.