29 سبتمبر 2025
تسجيللقد اقترن مصطلح "الانتخابات" بالديمقراطية، إلى الحد الذي كاد أن يزول معه التمييز بينهما، وأن يُعْتَبرا من المفاهيم المترادفة! والحق أن "الانتخابات" باعتبارها إجراءً للاختيار بين ممكنات، لم تعد، بل لم تكن مقصورة على اختيار ممثلي الشعب في النظام النيابي، فهي تمارس في العديد من المؤسسات والشركات العامة والخاصة وغيرها. وعليه فإن الانتظام في طوابير أمام صندوق الانتخابات لا يكفي وحده دليلاً على أننا في مجتمع ديمقراطي. المسألة إذن ليست في وجود انتخابات أو عدم وجودها، بل في وجود أو عدم وجود "ديمقراطية". ونحن إذ كنا لا ننكر إنه لا ديمقراطية بدون انتخابات، فإننا في ذات الآن نؤكد على أن الديمقراطية ليست انتخابات فقط. الديمقراطية كما نفهمها، وفي معناها البسيط، هي أن يتمكن الشعب بواسطتها من الوصول إلى (القرارات العامة) التي تلبي حاجات المواطنين المختلفة : ( الحاجة إلى الصحة والغذاء والسكن، والحاجة إلى العمل وإلى التعليم، وإلى التواصل والانتقال، وإلى الاستمتاع والترفيه الخ). ومعلوم أن حاجات المواطنين متنوعة ومتغيرة ومختلفة وممتدة في الزمان بامتداد الحياة، لذلك لزم أن تكون الديمقراطية عملية مستمرة غير مرتبطة بمواعيد دورية محددة، هي تلك التي تجرى فيها الانتخابات. بل إن دورية الانتخابات هذه هي في الحقيقة اعتراف بالأصيل ( الشعب) وعودة إليه، وأن انتخاب مجلس تشريعي لا يفقد الأصيل صفته باعتباره مصدر السلطات. إن صفة الاستمرارية التي تتصف بها العملية الديمقراطية، نابعة من كونها تنطوي على أفعال متعددة غير محددة بزمان معين، هي التي تميزها عن فعل الانتخاب البسيط. وهذه الأفعال المتعددة المتنوعة المستمرة هي الأساس الذي ننظر من خلالها إلى الإعلان عن إجراء "الانتخابات في شهر اكتوبر من العام القادم"، الذي جاء في خطاب الأمير في افتتاح دور الانعقاد العادي التاسع والأربعين لمجلس الشورى، ونقدره كخطوة هامة على طريق الديمقراطية، أو أنه ليس كذلك. إن الإنتخابات لا يمكن أن تكتسب هذا المعنى ( خطوة هامة على طريق الديمقراطية ) إلا إذا سبقها، وواكبها، واستمر بعدها أفعال أخرى تفوقها في الأهمية، هي عندنا بمثابة الشروط الضرورية للديمقراطية. أول تلك الشروط التي لاتقوم الديمقراطية بدونها هو حق المعرفة، وهو حق مستمر، ولا نحتاج إلى تفصيل قول لبيان أنه لا يمكن أن يُبنى أي قرار سليم دون معرفة شاملة ودقيقة للواقع الاجتماعي ( السياسي والاقتصادي والصحي والتعليمي والترفيهي ..الخ). إن حياة المواطنين في حاضرهم ومستقبلهم، التي يُعبر عنها في قرارات عامة، تعتمد على معرفتهم بالواقع الاجتماعي على نحو شامل ودقيق وفي الحال. وينتج عن ذلك أن تكون المعرفة حقاً من حقوق المواطن، مثلها مثل حق الحياة. ويتضمن هذا الحق أن تصبح كل المعلومات متاحة، ويحصل عليها المواطن بسهولة ويسر، وبدون كلفة. وهي تشمل: التحديات والمشكلات والصعوبات التي يواجهها المواطنون، بصفتهم الفردية، أو المجتمعية، وإمكانيات المجتمع البشرية والمادية، وجميع الخطط والاستراتيجيات والميزانيات المرتبطة بإدارة تلك الموارد قبل وأثناء وبعد التنفيذ. ويتضمن هذا الحق أيضاً، إمكانية إجراء البحوث العلمية، والاستقصاءات الصحفية، وغير ذلك من الوسائل التي تمكن المواطن، من تكوين معرفة دقيقة وشاملة عن كل ما من شأنه المساهمة في بناء واتخاذ القرارت العامة. ولأن الديمقراطية هي أن يتمكن المواطنون من الوصول إلى (القرارات العامة) التي تلبي حاجاتهم المختلفة، كما أسلفنا القول، فإنه يُبنى على الحق في المعرفة حق آخر، هو حق التعبير، وهذا هو الشرط الثاني الذي لا تقوم الديمقراطية بدونه. أي أن يتمكن المواطن من نقل ما تكوّن لديه من معرفة، وما بنى عليها من رأي إلى غيره من المواطنين. ويتضمن هذا الحق: الكتابة بكافة أشكالها ومضامينها، الأدبية والسياسية والاجتماعية ..الخ والتعبير الفني بصوره وأشكاله المختلفة من سينما ومسرح وتصوير ...الخ وإلقاء المحاضرات، وإجراء الندوات، وعقد المؤتمرات ..الخ وغير ذلك من وسائل التعبير التي تُمَكّن المواطنين من الحوار وتبادل الآراء حول قضايا مجتمعهم المختلفة، وليصوغوا مستقبلهم الذي يريدون. ويتمخض عن الحق في المعرفة والحق في التعبير حق ثالث هو الحق في التنظيم. مصدر هذا الحق هو اختلاف أفراد المجتمع في إدراك (مشكلات) واقعهم الاجتماعي، واختلافهم في التمييز بين أيها أكثر إلحاحاً وأيها أقل، واختلافهم في معرفة الحلول المناسبة لتك المشكلات، وفي أولوياتها ...إلخ . وهذا الاختلاف واقعة لا يمكن انكارها، نلاحظها كل يوم . وهو اختلاف يعود إلى شبكة من الاسباب ليس أولها المصلحة، ولا آخرها درجة العلم والمعرفة والخبرة . وفي نفس الوقت فإن أفراد المجتمع يأتلفون ويتحالفون، ويخلقون المشترك الذي يعبر عن مصالحهم ويبنون عليه مساحات أكبر من الاتفاق. وهذا التآلف والتحالف واقعة لا يمكن انكارها كذلك، نلاحظها كل يوم، على المستوى الاجتماعي البسيط (الصداقة) وعلى المستوى السياسي ( الأحزاب السياسية) (الإئتلافات الحزبية) . من هاتين الواقعتين (الاختلاف والإئتلاف) تتكون الجماعات السياسية، ومن ثم تنبثق الحاجة إلى تنظيمها قانونياً في جسم سياسي يجسدهما هو الحزب السياسي. خلاصة القول هي إننا لا ننظر إلى حق الانتخاب باعتباره إجراء ديمقراطي في ذاته، ولا نعتبره كذلك بمعزل عن حق المعرفة وحق التعبير وحق التنظيم وغيرها من الحقوق التي تعبر عن كون "الشعب مصدر السلطات".