03 أكتوبر 2025

تسجيل

مواقف من التاريخ لا تنسى

02 أغسطس 2021

الصحفيون الذين كانوا يشتغلون معي في جريدة (العمل) لسان الحزب الحاكم في تونس لا بد أنهم لا يزالون يتذكرون ذلك اليوم وأقص عليكم هذه المواقف لأنها تسلط على ذلك العصر وعلى شخصية بورقيبة وتاريخ تونس السياسي أضواء الحقيقة! خلال الأشهر الأولى التي تسلمت فيها إدارة (العمل) لسان الحزب الدستوري ورئاسة تحريرها أردت أن أغير منهج جريدة الحزب بإدخال بعض الحريات المتاحة طبعا ووجدت الفرصة في تحقيق صحفي أعتقد أن من قام به أحد فرسان الإعلام الرواد في الصحافة الاستقصائية التونسية وقتها إما محسن الجلاصي أو محمد علي الحباشي أو علي الرزقي (أبرز الاستقصائيين وهم زملائي قبل أن أتحمل الإدارة وبعدها) على ما أذكر، وجاءني للمكتب أخي وزميلي الأكبر مساعد رئيس التحرير عبد القادر قزقز قيدوم العمل وفي يده ملف وضعه أمامي قائلا لي: "هذا تحقيق حول طفلين من الريف التونسي مصابين بمرض نادر ليس له علاج إلا في الخارج ويلح كاتبه على أن أعرضه عليك أنت شخصيا" وفتحت الملف وهو موثق بشهادات طبية وصور خاصة واستغاثة أمهما الموجهة إلى رئيس الجمهورية بدعواتها لفخامته بالصحة والعافية! وقال لي عبد القادر ناصحا عن قناعة وتجربة: "هذا التحقيق لا تنشره جريدة بورقيبة لأن فيه مساً من وزارة الصحة ومن الدولة ومن رئيس الدولة نفسه!"، وقلت له: "ربما تغير المناخ مع محمد مزالي (الذي ولاه الزعيم رئاسة الحكومة) وبورقيبة نفسه يحب الخير للشعب فلنجرب بالنشر وإذا غضب فخامة الرئيس فأنا وحدي المسؤول الأول والأخير عن هذه الغلطة، أما إذا مر التقرير بسلام فهو الدليل على أن المناخ الإعلامي تطور مع محمد مزالي!!"، ورد علي أن نشره سيكون على مسؤوليتي الشخصية إذا لم أقتنع بالنصيحة فقلت له "لنجس النبض والله معنا" وسألني هل ينشره كاملا أو يخفف منه؟ فقلت له: "بل أنشره كاملا وبالصور والوثائق" وهكذا كان واحتل التحقيق صفحة كاملة مع إشارة في الصفحة الأولى (بأن طفلين تونسيين ينتظران معجزة لإنقاذ حياتهما) ونمت تلك الليلة مطمئن الضمير لاعتقادي أنني أديت واجبي ولم أتجاوز لا حدودي المهنية ولا حدود الأدب تجاه السلطة والحزب الدستوري الذي أنا لسانه!. الذي حدث هو أنه على الساعة السابعة صباحا يوم نشر التحقيق كانت المفاجأة المدوية وغير المتوقعة! كنت لا أزال في فراشي أتصفح ككل صباح الجريدة وأقرأ التحقيق وإذا بالهاتف يرن (وهو موصول بستندار دار الحزب في القصبة التحويلة المركزية) فرفعت السماعة وسمعت صوت موزع التلفون زميلي المحبوب والقديم خميس يقول لي: "السيد الرئيس طالبك"، فكان ردي العاجل والتلقائي: "سي محمود المسعدي رئيس المجلس؟" لأن سي محمود كان أحيانا ينسق معي أشغال مكتب المجلس لأني كنت مقررا لأكبر لجنة برلمانية وهي لجنة الشؤون السياسية! فقال خميس وهو مندهش أيضا: "لا لا معايا قصر قرطاج واللي طالبك فخامة رئيس الجمهورية وليس رئيس مجلس النواب"، وأصارحكم أنني في تلك الثواني توقعت إقالتي الفورية ورفتي من اللجنة المركزية للحزب أو أخطر جراء عملتي السوداء! وأنا أعرف غضبات بورقيبة الأسطورية المشهورة التي تغير أحيانا تاريخ تونس! وبعد تحياتي المتلعثمة وعبارات احتراماتي سيدي الرئيس المرتبكة من نوع: "سيدي الرئيس صباح الخير وهذا شرف لي"، سمعت صوته الذي ارتبط في ذاكرتنا كجيل كامل بملحمة كفاح! صوت متأنٍ وكلمات واضحة قال لي بدون رد السلام وباللهجة التونسية الدارجة: "يا سي أحمد الصباح قرأ لي محمود (يقصد بلحسين) الكلام اللي تنشر عن الزوز أولاد المرضى وبلغتني دعوة الخير من أمهم وتأثرت بخوفها على أولادها وتوة كلمت رشيد صفر (وزير الصحة آنذاك) وأذنتو باش يبعثهم على حسابي أنا للخارج وبارك الله فيك اللي نشرت ها المشكلة في جريدتي أنا". وعلق السيد الرئيس سماعة الهاتف ولا تتصوروا مدى دهشتي وفرحتي بانتصاري للحرية وكررت الشكر والتقدير للسيد الرئيس إلى أن أغلق الهاتف ولم أصدق ما كسبته من رهاني المتواضع على تغيير بعض ما بالصحافة الحزبية من كلام خشبي معهود بنيل ثقة الرئيس وتجاوبه السريع مع مأساة الطفلين! وبالفعل صدر عدد الغد من جريدة (العمل) بمانشيت على ستة أعمدة: (المجاهد الأكبر يستجيب لنداء أم الطفلين المريضين ويأذن سيادته بعلاج ولديها بالخارج على حسابه الخاص ويصدر تعليماته إلى وزير الصحة بإرسالهما إلى فرنسا). ومجموعة أرشيف الجريدة موجودة في المكتبة الوطنية وفي المركز الوطني للوثائق لكل من يريد توثيق هذه الحادثة! رحم الله بعض من ذكرت ممن توفاهم الله وأحيي من عاش تلك التحولات معي ولا يزال حياً يرزق، فجيل الشباب من أبناء تونس أحوج ما يكون لمعرفة زوايا مجهولة من تاريخ بلاده والزعيم المؤسس لدولة الاستقلال. [email protected]