17 سبتمبر 2025

تسجيل

لا تحقرنّ معروفًا ولا ذنبًا (1)

02 يوليو 2014

من معاني ومقتضيات الكِياسة والفطنة في المؤمن، التي أشار إليها نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، في الحديث: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ)، أنه لا يحقر ولا يستصغر شيئاً من المعروف أو من الذنوب، وأنه يُقدّر كل الأمور في دينه حق قدرها، ويمنحها جميعاً قسطاً من اهتمامه العمليّ، ونصيباً من عنايته القلبية، أياً كان حجم تلك الأمور وقدرها، إذ إنها ذات صلةٍ برصيده الأخروي، الذي تحسب فيه الأفعال، وتوزن فيه الأعمال، بالحسنات والسيئات. هذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن، ويصير عنده لزاماً في حياته، أنه لا يستقلّ ولا يستهين بشيءٍ من الأعمال مطلقاً، أكانت حسنة أم سيئة، وينبغي أن يكون عنده دقيقها كجليلها، وصغيرها ككبيرها، في حرصه على فعلها، واحتسابه لأجرها، إن كانت حسنة، أو تجنبه اقترافها، وخوفه عقابها، إن كانت سيئة.كيف يجوز للمؤمن ترك ذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يرهُ.. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره)، أي يراه يوم القيامة مسطوراً في كتابه، ومثقال: أي زِنة، والذرة: هي أصغر النمل، تجمع على ذرّ، وسبب نزول هذه الآية الكريمة، كما روي، أنه لما نزلت (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا)، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة والنظرة والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر فأنزل الله الآية.كيف لا يوقن المؤمن بما سبق، ويعمل به، والله جل وعلا يقول: (ونضعُ الموازينَ القسطِ ليوم القيامةِ فلا تُظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقالُ حبةٍ من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)، وحبة خردل، كناية عن صغر وحقارة العمل، ولمّا كان الأمر كذلك، فإن المجرمين يعجبون يوم القيامة، حينما تعرض عليهم صحف أعمالهم ويقولون، كما جاء في القرآن: (يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها)، انظر قولهم وكيف قدموا ذكر المعصية الصغيرة على الكبيرة، ما ينبيك عن خطورة أمرها.كيف لا يوقن المؤمن بهذا، وهو لو تأمل في الحياة، وأطال نظره فيها، لقالت له رسومها ومعالمها في الواقع المحسوس من الطبيعة، التي هي كتاب الله المنظور، إن كان القرآن هو كتابه المسطور، ولنطقت له بالحكمة مما جاء على لسان الشعراء:لا تحقرنّ صغيراً في مخاصمةٍإنّ البعوضةَ تُدمي مقلةَ الأسدِوفي الشرارة ضعفٌ وهي مؤلمةٌوربما أضرمت ناراً على بلدِولآخر:لا تَحْقِرنَّ صغيرةًإنّ الجبالَ من الحصىكيف يتصور من المؤمن، أن يحقر شيئاً من المعروف أو من الذنوب، وهو لا يدري بأي الأعمال تكون نجاته أو هلاكه، ولا يدري بما يغفر الله له، فيدخله الجنة، فإن الله سبحانه قد أخفى رضوانه في طاعته، وأخفى غضبه في معصيته، وللإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قول بليغ في هذا وهو: (إنّ الله أخفى اثنتين في اثنتين، أخفى أولياءه في عباده، فلا تدري أيهم تلقى من عباد الله، هو من أوليائه، وأخفى رضوانه في طاعته، فلا تدري أي طاعة تعبد الله بها تكون سبباً لرضوانه).وفي المعنى الأول من قول الإمام علي رضي الله عنه، يقول الشاعر:فلا تحقرنّ خَلْقاً من الناس علَّهوليّ إله العالمين وما تدريفذو القَدْر عند الله خافٍ عن الورىكما خفيت عن علمهم ليلةُ القدرِأما المعنى الثاني، فقد جاءت الأحاديث النبوية منبهة إليه، ودالة عليه، حاثةً وآمرةً على العمل بمقتضاه، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق) أي متهلل بالبشر والابتسام، وقال أيضاً: (اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وفي حديث آخر: (الكلمة الطيبة صدقة)، أي القول الحسن، الذي قلّ من يقيم له وزناً، مع أنه لا يكلف الإنسان شيئاً، ويحقق الأَرَب، ويصنع العجب، حتى قيل في المثل: رب قولٍ أشد من صَوْل.ولننظرْ كيف فهم السلف الصالح، هذه المعاني، وكيف تجلت في أعمالهم، وذلك في المقالة القادمة، بحول الله وقوته.