12 سبتمبر 2025
تسجيلتُعرّف السخرية بأنها طريقة من طرق التعبير يستخدم الشخص فيها ألفاظًا تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة. والمطلع على الأدب بشكلٍ عام يلحظ أن السخرية انتُهجت في بعض الأعمال، كرسالة ضمنية تصل إلى المتلقي بصورة قد لا يعيها بشكل مباشر، تماماً مثل الشخص الذي ألقيت عليه العبارة الساخرة لا يفهمها في لحظتها. لعل هذا النوع من الكلام، يحتاج إلى ذكاء وفطنة، واقتناص نقاط الضعف واصطياد المفارقات التي تثير ضحك الجمهور، في ذات اللحظة التي تعالج القضية، مهما كان لها بُعد مأساوي. ولأن السخرية مؤلمة في عمقها، كأنها الطريق المضحك الذي ينتهي بالبكاء بحرقة، فهي أبعد ما تكون عن السطحية، أو حتى الساحة التي تضيع فيها المعاني والرموز وتضج بالضحك والتهكم، هي عميقة إلى أن تلامس أقصى نقطة في النفس البشرية، إنسانيتها هي نفسها موضع الألم. ولكن، ماذا لو حوّل الكاتب السخرية إلى تهكم فارغ، إلى ضحك رخيص لا يتضمن أي رسالة، ولا يتستر بأي هدف، الضحك من أجل الضحك، والاستهزاء من أجل الاستهزاء ..؟ إن ما نُبصره الآن من بعض "الكتّاب" الذين يكتبون تحت مظلة "الأدب الساخر" لا يمتون للغة الكاريكاتورية بصلة، بل إنهم يفتقرون إلى البلاغة اللغوية التي تُستخدم لهذا الغرض، ولا يملكون الأدوات التي من خلالها يصلون إلى مبتغاهم وتحقيق أهدافهم. لعل الكاتب البارع، المتقن لآلية السخرية، هو الذي بفنه ومهارته يغزل النص بحيث لا يعمد إلى الإسفاف في المفردة وإن كان قصده الانتقاص في المعنى، فنرى أنه انشغل بانتقاء اللفظ والتركيبة النصية، وترك الدلالة لفهم القارئ، يضحك ويبكي متى ما وصل إلى محطة الفهم، مهما طال به الطريق، في التفسير والتأويل. ففي الأدب الشكسبيري، نرى أن هاملت لعب الدور الساخر، في حواراته وأدائه، كانت السخرية اللاذعة، بقصد الإيلام، والتوجع طيلة النص المسرحي. وفي كتابه البخلاء استخدم الجاحظ السخرية بفن وإتقان، وكذلك رهين المحبسين أبو العلاء المعري، كان له انتهاجه الأدبي الساخر، ففي كتابه "رسالة الغفران" التي لم يسلم فيها أحد من سخريته، إلى أنه سخر حتى من اسمه، إذ قال: دُعيتُ أبا العلاء وذاك بينٌ ولكن الصحيح أبو النزول إن السخرية إن لم تأتِ لنا من عالم اللغة بليغة جميلة، فهي إذًا بلفظها ومعناها لا تعني إلا الاستخفاف بالعقل البشري، واستهزاء بالنفس البشرية، والضحك الرخيص لا يقبله إلا الجهل القبيح. إن كاتبًا يسمي نفسه ساخرًا لا يمتلك آلية هذا الفن، والبراعة في سبكه وحبكه، فاحترامًا للعقل والأدب واللغة، وما كتبه الكبار قبله، فمن التهذيب أن يدعه وشأنه دون أي تشويه.