11 سبتمبر 2025
تسجيلشأن كل المسلمين هناك ذكريات رمضانية لا تغيب عن ذاكرتي رغم انني صرت بسبب الحبس الكوروناوي لم أعد أتذكر ما هي طبيعة عملي، ومعظمنا لا ينسى مثلا تجربة الصيام لأول مرة، ولا ينسى وقائع معينة حدثت في ذلك الشهر سواء تعلقت بالمشقة او الروحانيات او حتى بالوجبات، وبما أنني رهن الاعتقال الطوعي منذ الثامن من مارس الماضي، فإنني أملك من الوقت ما يكفي لكل أمر ينبغي القيام به لملئه، بل عندي فائض منه بعد منتصف الليل، عندما اصبح عاجزا عن القيام بأي نشاط بدني او ذهني، وفي مثل تلك اللحظات، وأنا أتساءل هل اواصل السهر حتى موعد السحور، أم أحاول استجداء النوم، أجد نفسي أغوص في سنام الذاكرة وأستعيد رمضان السوداني الذي فيه رائحة غير مجازية ذكية، وواقع الأمر أنك تسير في شوارع أي حي سكني في السودان خلال شعبان وأنت غير مدرك لدخوله، فتتسلل الى أنفك رائحة عطرية فتجد نفسك تهتف: الله أكبر؛ يظهر رمضان على الأبواب فما من بيت في السودان يخلو من "الحلو-مر" الذي يصنع من عجينة الذرة المخلوطة ببهارات زكية الرائحة، تفوح وتعم القرى والحضر عند إعدادها على شكل رقائق تطبخ على لوح حديدي سميك يسمى الصاج او الدُّوكة، ويتم طي تلك الرقائق وتجفيفها ليتم نقع بعضها في الماء خلال رمضان لإعداد مشروب ذي حمرة داكنة لا تجد لطعمه مثيلا في جميع المشروبات التي تملأ أرفف المتاجر ولكن بؤرة الذكريات الرمضانية عندي تكون دائما تلك الجزيرة النيلية (بدين) التي أنتمي اليها في شمال السودان النوبي حيث جميع سكانها اهلي، وحيث الصوم وافطار رمضان عمل جماعي، وتلح عليّ الذاكرة كي أقف عند محطة فضيحة لازمتني لسنين طوال، فقد كان من عادة الرجال والصبية الذكور من الاهل التوجه الى النهر عندما ينتصف نهار رمضان، ويبقوا فيه يسبحون حتى قبل الغروب بدقائق، كنت في نحو الثامنة من العمر عندما وجدت نفسي مطالبا بالصوم لأثبت انني "راجل"، وفي اول يوم في رمضان استبسلت حتى منتصف النهار، ثم توجهت الى النيل مع اقراني، وكان يوما قائظ الحر، ومنطقة النوبة أصلا صحراوية المناخ، بها شتاء قارس البرد وشمس صيفية يخيل اليك انها شعاع ليزر مسلط عليك شخصيا؛ ونزلت في الماء وأحسست بمسامات جسمي تطلق بخارا ذا هسيس، وانتعشت وسبحت ثم غصت، وهناك تحت السطح احسست بالماء أكثر برودة، فقلت لا بأس في شفطة بسيطة ولا أحد يراني، وشفطت، وشفطت، حتى صارت الجرعة البسيطة كبيسة، ثم طفوت، وأحسست أن هناك خطأ في قانون الطفو الخاص بأرخميدس، لأنني صرت عاجزا عن تحريك اطرافي كي ابقى طافيا، عندها رأني أحد كبار السن وحسب انني على وشك الغرق وسحبني الى الشاطئ، واستلقيت على الرمل الناعم في وضع جنيني، وفوجئت بالماء يتسرب عبر فمي وكأن به "تسيب عضوي"، فجلست واضعا رأسي بين رجلي فإذا بالماء يواصل الانسياب، وإذا بجميع من حولي ينفجرون ضاحكين مستهزئين واطلقوا علي لقب "أرمدان كبي" وأرمدان هو رمضان، فاللسان النوبي لا يخرج صوت الضاد والعبارة بأكملها تعني "فاطر رمضان"، ولسبب لا يعلمه إلا الله لا توجد كلمة نوبية واحدة تبدأ بحرف الراء، وإذا أراد النوبي ان ينادي رقية مثلا فإنه يجعلها "إرقية" وبداهة فقد صار اسمي أرمدان كبي بن عباس، ولكن المؤلم في الأمر ان تلك التسمية ظلت تبعث من مواتها الموسمي مع حلول عديد الرمضانات التالية، وكنت في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة حيث كان عمري نحو 13-14 سنة، عندما أعلن المدرس ان "يوم غد" هو اول رمضان، فصاح أحد الزملاء بما معناه: مبروك الشهر للجميع ما عدا "أرمدان كبي"، فتساءل المدرس عن سر التسمية، وما أن عرف تفاصيلها حتى هاج وماج ولعن خاش اهلي لأنهم وعلى حد قوله يكلفون عيالهم شططا بإرغامهم على صوم أيام كاملة وهم في سن الطفولة باسم "المرجلة" لم تفارقني تلك الكنية الا في المرحلة الثانوية عندما أصبحت قادرا على المحاججة والملاججة مستخدما حجج استاذي ذاك، وجعلتني تلك التجربة التي استعيدها ضاحكا الآن بعد طويل معاناة للالتفات الى أمور كثيرة، من بينها ان الطريقة التي كانوا نَتَلقى بها العلوم الدينية، لم تكن تفيدنا في فهم أبسط مبادئ الدين. [email protected]