14 سبتمبر 2025
تسجيلخلق من أفضل ما أنعم الله به على أمة محمد، خلق الإيثار ذلك الخلق الذي لا يصل إليه إلا من نزع أسوأ ما في نفسه من خصال الأنانية والشح، وهو أمر يحتاج مجهودًا فائقًا، فأنت حينما تُفضِّل غيرَك على نفسك تشبه من جاهد نفسَه ونأى بها حتى لا تقع في صفة انعدام المروءة والفضل. فكيف برجل شريف في قومه منسوب إلى دين عظيم وقوم كانوا يتسارعون في فعل الخيرات، كيف برجل كهذا تنعدم من صفاته صفة المروءة والفضل، هل نحن بأقل من هؤلاء الغربيين الذين يصنعون يومًا للقضاء على الفقر؟ لا لسنا كذلك، بل نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نغص يومًا بمساعدة الفقراء بل نسلم حياتنا كلها لتكون عونًا لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين لا يجد بعضهم قوت يومه، وبعضهم لا يستطيع أن يرسم البسمة على وجه أبنائه لضيق ذات اليد، فأين نحن من الرسول — صلى الله عليه وسلم —، ألا تتذكرون تلك المرأة التي أتت رسول الله ببردة تهديها إليه، وهو محتاج إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها. فقال: نعم. فلما قام النبي — صلى الله عليه وسلم — لام الصحابة هذا الصحابي قائلين: ما أحسنتَ حين رأيت النبي — صلى الله عليه وسلم — أخذها محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفتَ أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوتُ بركتَها حين لبسها النبي — صلى الله عليه وسلم — لعلي أُكفَّن فيها. أتعقلون جواب رسول الله، لم يزد عن قول: نعم، يا لعظمة ذلك الرسول الذي يؤثر الناس على نفسه حتى هذه الدرجة العظيمة، ألا تحبون أن تتخلقوا بخُلُقه، ماذا لو قررتَ أخي الكريم وقد منَّ عليك الله بنعمة الحياة والتمتع بالصحة والأموال، ماذا إذا خصصت جزءًا صغيرًا من راتبك واشتريت ملابس الصيف لأسرة محتاجة، أتتخيل مدى فرحة أسرة فقيرة بهذه الملابس؟ أترى مثل تلك الفرحة في عيون هؤلاء الفقراء، كلنا نحتاج إلى رؤية تلك الفرحة، أليس المسلم من أعان أخاه في حاجته؟ ألم ينفِ الرسول الإيمان الكامل عن هذا الجار الذي ينام وجاره يبيت جائعًا إلى جنبه وهو يعلم؟! فعليكم بالإيثار، فكثيرٌ منا أو عدد ليس بالقليل يمتلك في خزانة ملابسه خمسة أردية على الأقل، فماذا سيحدث إذا قررنا ألا نجدد شقتنا هذا العيد، أو أن نكتفي برداء واحد بدلا من اثنين، وأهدينا الآخر لشخص محتاج فقير، وربما شجعنا أولادنا على صنع صندوق صغير يضعون فيه جزءًا صغيرًا من مصروفهم، حتى إذا اقترب العيد، أخذناهم في جولة صغيرة ليشتروا بمصروفهم شيئًا يُدخلون به السعادة على بعض الفقراء، وراقبهم وهم يتهافتون على شراء أشياء بأكثر مما جمعوا من أموال لترى تلك الفطرة التي فطر اللهُ الأطفالَ عليها، لتوقن أنها نعمة، نعم إيثارك لأخيك نعمة، تلك المشاعر التي تكنها نحو إخوتك نعمة عظيمة، وأن تحيي تلك المشاعر وأن تحس بها مرة أخرى هي نعمة أخرى جميعنا يحتاج إليها، ونحن في شهر عظيم تتضاعف فيه الأعمال وتزداد فيه الأجور فلا وقت سيكون مناسبًا مثل ذلك الوقت، فشمِّر ساعدَيْك وأقْبِل منافسًا مَن تعرف مِن أصحابٍ أو إخوة أو أقرباء، لنرى مَن منا سيُسعِد الآخرين أكثر؟ مَن منا سيُؤثِر الآخرين على نفسه؟ وقد صدق الله حين قال: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". فها هم الأنصار يُعطُون المهاجرين أموالهم إيثارًا لهم بها على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، والشح المذكور في الآية هو أشد من البخل، فيقال: فلان بخيل وفلان شحيح، فالشحيح بخيل وزيادة، فالبخل دركات؛ لأنه في العد النازل، فمن دركاته الشح، وهو أشده، وشدة الحرص تحمل الإنسان على فعل ما لا يَجمُل ولا يليق، فيقطع الرحم، ويحارب الأخ، ويعارك ويقاتل على أتفه الأشياء، ويؤدي إلى قطيعة الرحم والإساءة إلى الجيران والمعارف، فهو باب مفتوح للمشكلات من كل ناحية، أعاذنا الله وإياكم من الشح، أما الإيثار فإن له ثمارًا عظيمة، فبه تحدث البركة في المال، وفي الأهل فلا يصيبهم مرض، ويتعايشون بأقل النقود، وينفعك الله بأولاد يدعون لك ويطيعونك ويحسنون صحبتك، كل هذه ثمرات تحدث من إيثارك للفقراء، بالإضافة إلى الحسنات التي تُعطى لك على مثل هذا العمل، فما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا. فاجعل لسان قولك وفعلك تقديم الفقراء على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، فكل فعل تدنو به إلى عبادة الله يُقرِّبك درجات إلى جنات الله عز وجل. ولا تنسَ نصيحة رسول الله — صلى الله عليه وسلم — حاثًّا على الإيثار وبناء المجتمع الفاضل فيقول: « مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ» فقد خلقك الله لعبادته ولإعانة خلقه على عبادته، وهذا لا يتأتى إلا بمساندتك لهم وقت الشدائد ووقت كروبهم وحوائجهم، فلستَ خاسرًا يا من أعطيت لفقيرٍ ما زاد عندك، فهو زائد وأنت لا تحتاج إليه، فلماذا تنتظر أن يفنى ما عندك لِتَلَف يصيبه من الخارج، بل بادر ثم بادر بإعطائه لفقير يدعو لك ويمنحك ثوابًا أنت ستكون في أشد حاجة إليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.