15 سبتمبر 2025

تسجيل

الانفتاح الاقتصادي والأنظمة المنغلقة

02 يونيو 2012

لم يشهد العالم من قبل انفتاحا اقتصاديا وتجاريا مثلما حدث في السنوات العشر الماضية، بحيث أصبح العالم سوقا واحدة كبيرة موزعة على بلدان كثيرة، بل إن حتى البلدان التي تمتعت بالحماية الجمركية وانغلاق أسواقها لعقود طويلة اضطرت إما إلى إلغاء هذه القيود أو التخفيف منها إلى حدها الأدنى، إذ أن بديل ذلك هو الانعزال عن العالم وعدم الاستفادة من الفرص التي تتوفر في الأسواق الدولية، وذلك إذا ما استثمرت هذه الفرص بصورة صحيحة. ومع ذلك بقيت السياسات الاقتصادية لبعض البلدان متشددة، حيث يعتقد القائمون عليها خطأ أنها قادرة على الانعزال الاقتصادي ومواجهة العالم، إما بسبب التعنت، كما هو الحال مع كوريا الشمالية أو بسبب العقوبات الناجمة عن التمسك بسياسات أيديولوجية متشددة، كما هو الحال مع إيران. والحال أن كلتا الحالتين تؤديان إلى تدهور اقتصادي وإلى تدني مستويات المعيشة للسكان، وهو ما يحصل بالفعل في هذين البلدين، إذ أن العولمة وهيمنة الشركات الكبيرة التي تدير الاقتصاد العالمي لها سياساتها ومعاييرها والتي لا يمكن لدولة بمفردها مواجهتها. وإذا ما أخذنا على سبيل المثال المضاربات الجارية في أسواق النفط والذهب والبورصات، فإننا سنجد أن كافة محاولات بلدان العالم للحد من هذه المضاربات، بما فيها محاولات إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما ذهبت أدراج الرياح، إذ أن قوة رأس المال أصبحت مهيمنة وتتحكم في الكثير من مفاصل الاقتصاد العالمي. والحقيقة أنه لرأس المال المالي المهيمن توجهاته التي تعبر عن المرحلة الحالية من تطور الاقتصاد الرأسمالي والتي يأتي في مقدمتها انفتاح السواق، وبالأخص حرية حركة رأس المال التجارة والاستثمارات، وذلك لتكريس توجهاته ذات الطابع الرامي إلى تعظيم الأرباح من خلال الأوراق المالية والمضاربة في المشتقات. من هنا، فإننا نرى هناك تناغما لم يسبق له مثيل بين حركة الأسواق المالية في العالم، وكأنها تعزف ضمن فرقة متناسقة للموسيقى الكلاسيكية الراقية لإحدى سمفونيات بيتهوفن أو موزارت أو جيكوفسكي، فالارتفاعات والانخفاضات في البورصات العالمية تتزامن ضمن هذا العزف الفريد من نوعه والذي فرضته العولمة وانفتاح الأسواق وحرية انتقال رؤوس الأموال. والسؤال المطروح هنا أين موقع أسواق البلدان العازفة خارج هذه السيمفونية، ككوريا الشمالية وإيران ؟ والتي لكل منها أسبابه ومسبباته واللذان لم يستوعبا أن العالم قادر على ركنهما في زاوية ضيقة حتى وإن أدى ذلك إلى التخلي عن شراء النفط الإيراني مثلما يحدث حاليا. مثل هذه النظرة الشاملة والموجزة للتغيرات الاقتصادية الدولية تمكننا من فهم ما قد يترتب عليها من تداعيات سياسية وإستراتيجية، خصوصا وأن هناك آراء متزايدة في الخليج العربي تشير إلى أنه ربما يكون هناك اتفاق من تحت الطاولة لتقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة. أما واقع المصالح والتوجهات الاقتصادية لكلا الطرفين، فإنه يشير إلى غير ذلك تماما. وقبل كل شيء، فإن الطبيعة المنغلقة للنظام الاقتصادي الإيراني لا تتناسب وطموحات رأس المال المالي الغربي، والأمريكي تحديدا المنفتحة شهيته على الاقتصاد العالمي، بل إنها تقف على الضد من هذه الطموحات، إذ تسعى إيران للتحكم على ثروة النفط الهائلة الكامنة في منطقة الخليج والذي يمكن في حالة التفريط فيها أن يشكل كارثة لمصالح البلدان الغربية وشركاتها التي تدير الاقتصاد العالمي. إذن هناك تناقض صارخ بين هذين التوجهين، وذلك بغض النظر عن المساومات السياسية الدائرة بين الطرفين والتي يحاول كل طرف من خلالها كسب الوقت ليس إلا، إلا أن الأكيد هو أن أنظمة مثل كوريا الشمالية وإيران تعيش خارج نطاق العولمة، مما يضعها في تناقض مع سير الاقتصاد الدولي، وذلك بغض النظر عن إيجابيات وسلبيات العولمة وانفتاح الأسواق. وبما أن هذين البلدين يغردان خارج سرب الاقتصاد الدولي، فإن الآفاق أمامهما مسدودة، إذ إن حتى البلدان التي لا ترغب في الانضمام لمقاطعة النفط الإيراني، كالصين والهند وجنوب إفريقيا اضطرت إلى تخفيض وارداتها بنسب كبيرة، وذلك رغم الحسومات والتسهيلات التي قدمتها إيران، كالدفع باليوان الصيني أو الروبية الهندية أو مقايضة النفط بسلع ومنتجات استهلاكية. وهنا لا يحمل هذا التوجه من قبل الصين والهند وجنوب إفريقيا الكثير من الاستغراب، فإما الانضمام لهذا التوجه العالمي الذي يقوده رأس المال المالي، وإما التضحية بمصالحها مع دول وشركات عالمية أكثر قوة ونفعا لهذه البلدان. وإذا ما اعتبرنا أن المصالح الاقتصادية هي المحرك الأساسي للتحالفات والتغيرات الجارية في العالم والتي أشرنا إليها بصورة مختصرة، فإن ذلك يعني أنه لا مستقبل للأنظمة المنغلقة اقتصاديا في ظل العولمة وانفتاح الأسواق وحرية حركة التجارة ورؤوس الأموال التي أصبحت سمة ملازمة للنظام الاقتصادي العالمي في العصر الراهن.