13 سبتمبر 2025

تسجيل

نصف قرن من الحياة

02 مايو 2015

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه". وهي أربع شافية كافية من جوامع الكلم والصفات والسلوك البشري، فالدنيا ترتبط بالآخرة، والحياة ترتبط بالموت، وطالما أن الإنسان سيموت فهذا يعني أن هناك حقيقة أخرى غير تلك التي نراها ونعيشها عيانا، وهي حقيقة أخبرنا القرآن الكريم عنها.أقول هذا وأنا أسجل اليوم نصف قرن كاملة من الحياة، فيها ما فيها من القصص والحكايات والمواقف، وفيها الكثير من الفرح والدموع، والأمل والألم، والرغبة والرهبة، والتحدي.ليس من عادتي أن أكتب عن نفسي، فقليلة جدا هي المرات التي كتبت فيها عن شيء يخصني، لكن هذا اليوم يشكل لحظة تاريخية مع قضاء خمسين عاما من الحياة، وهي أيام عامرة بتجارب كثيرة، وهي مدة ليست بالقصيرة، ففيها 18262 يوما، أسأل الله أن يعفو عما فيها من أخطاء، وأن يغفر لي زلاتي.لقد عشت غالبية هذه الأيام في حالة كاملة من الوعي، مذ بلغت العاشرة من عمري، أتذكر كيف دخلت مدرسة أسامة بن زيد الابتدائية، القريبة، وأحببت شخصية "الطفل البطل" القائد أسامة بن زيد التي كانت مكتوبة بخط كبير على لوحة معلقة في الساحة أمام الإدارة، وكنت أشتهي أن أكون مثله.الحقيقة أنني لم أكن أحب المدرسة، فقد كان المدرسون صارمين جدا، و"الضرب على ودنه"، إلا أنني كنت أتمتع بأفضلية على أقراني لأن أدائي الدراسي كان متميزا، وحصلت في الصف الثالث الابتدائي على العلامة الكاملة في الشهادة أي 100 كاملة في جميع المواد، وقد كوفئت على ذلك بهدية من المدرسة كانت مجموعة من "الدفاتر وأقلام الرصاص والمحايات والبرايات"، لكن ذلك لم يشفع لي بالتمتع بالطفولة كما هي فقد دخلت سوق العمل في سن العاشرة وبدأت بمساعدة والدي، رحمه الله، فقد كان يعيل أسرة، أنفق ما كان لديه من مدخرات بعد أن اضطرت الأسرة إلى مغادرة فلسطين بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 67، وفقدان المنزل وكل الممتلكات من الأراضي، بعد أن كانت عائلة ميسورة، ولذلك كان لابد من البدء من جديد، وكان لابد من وجود من يساعد، وكان هذا الشخص هو الطفل الصغير "أنا"، ومنذ ذلك الحين وأنا أعمل، أي 40 عاما كاملة غير منقوصة.الحقيقة أنني كنت أحب العمل لأن ذلك جعل جيبي عامرة بالمال، وكنت أنفق كل ما أكسبه على شراء الكتب والقصص التي كنت أحبها جدا، فقد كنت أعمل في النهار، وأقرأ في الليل، ومازال هذا هو ديدني حتى الآن.محطات الحياة كثيرة، فقد تنقلت فكريا من الفكر الديني إلى الفلسفة الوجودية إلى الأدب وطفيليات العقل واللامنتمي وما بعد اللامنتمي والحداثة، وتعاركت مع الماركسية والرأسمالية. وقادتني هذه التجربة الفكرية إلى الإيمان أن الإسلام هو أجمل فكرة في الوجود، وهو دين كامل ليس فيه مثلبة واحدة، دين الخلق والعلم والعمل والشجاعة، يتمم مكارم الأخلاق ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر، يضع دماء الشهداء ومداد العلماء في مرتبة واحدة، وأحمد الله على هذه النعمة.هذا العراك مع الأفكار حملني إلى السياسة منذ سن الطفولة، وكنت أجادل أستاذ التاريخ الذي كان يضيق بي ذرعا، ودخلت الجامعة فوجدتها تمور بالأفكار، وتعاركت فيها مع الشيوعيين والقوميين واليساريين والإخوان المسلمين والتحريريين وأتباع المخابرات، وكان لي معهم جولات وجولات، ولم أترك مظاهرة إلا وشاركت فيها دفاعا عن فلسطين والمظلومين، أو ضد قرارات الحكومات الخاطئة، وشاركت في النقاشات والحوارات مع الجميع، مما أسهم بتعميق معرفتي بهم، وقادني ذلك إلى تعميق صلتي بالصحافة التي بدأت منذ عام 1980 عندما كنت طالبا في الثانوية، وتحولت إلى صحفي كامل أثناء الدراسة الجامعية ثم احترفت الصحافة بعد التخرج مباشرة في جريدة اللواء، وكنت، للمفارقة، أكتب في جريدة الرباط التابعة للإخوان المسلمين والجماهير الشيوعية والمسيرة اليسارية، والهدف التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفلسطين المسلمة التابعة لحركة حماس، ومجلة الأفق المستقلة.. بصراحة كنت أكتب عند الجميع، شرط ألا يملي عليّ أحد ما أكتب، مما أكسبني طيفا واسعا من الأصدقاء، ثم توج عملي في جريدة الرأي الأردنية شبه الحكومية وبعدها الشرق القطرية ومن ثم الوطن والرياض السعوديتان، والدستور الأردنية والتلفزيون الياباني ثم قناة الجزيرة ومجلة الدوحة الثقافية.خلال نصف قرن من الحياة تذوقت طعم الحياة الجميلة وعشت أياما حلوة وأخرى مرة، وامتزجت الأفكار بالمواقف، كسبت الكثير وخسرت الكثير، لكن أجمل ما فيها أنني أمتلك عائلة رائعة وزوجة لها من رجحان العقل الكثير، وأفضل ما امتلكته مكتبة عامرة أعتبرها أثمن ما أملك في هذه الحياة.خمسون عاما مرت، والبقية بيد الله سبحانه وتعالى.. أسأل الله فيها الإيمان والصدق والحكمة والسداد والشجاعة، فالمرء بأصغريه، قلبه ولسانه.