18 سبتمبر 2025
تسجيلتتعدَّد أشكال العلاقات الإنسانيَّة في شتَّى مراحل حياتنا من الطفولة إلى الكبر، وكل مرحلة لها أشخاصها الذين نتعامل معهم ونشاركهم الأحاديث والأفكار والمناقشات وغيرها من الأحداث التي تجمعنا بمن حولنا من الأهل والأصدقاء والزملاء وغيرهم. ومن أجمل أشكال العلاقات الإنسانيَّة وأنبلها: الصداقة، وسُمي الصديق بهذا الاسم للدلالة على صدقه مع صديقه في كل معاملة بينهما؛ فالصدق من أهم الصفات التي تحافظ على الروابط وتؤكِّد مدى استمرار أي علاقة على الإطلاق، وهو من صفات المسلم النقي المخلص لأصدقائه. والصدق يعلِّمك قول الحق على الدوام ويعلِّمك اتخاذ موقف محدد وثابت تجاه الجميع، وكذلك يعلِّمك التمسك بالمبادئ السليمة الراقية، فيكون للمسلم رؤية ومبدأ واضح مع الناس لا يتغيَّر من شخص لآخر ولا من موقف لموقف، كما يجعلك الصدق شخصًا صاحب مبدأ، وأصحاب المبادئ مميَّزون كما تعلمون، فهم قليلون، ولكنهم كالنجوم يُشار إليهم بالبنان، يحبهم الجميع بلا استثناء. ولكن ليس كل مَن نعرف ونقابل في حياتنا يمكن أن نصفه بأنه صديق صدوق صاحب مبدأ؛ فهناك فئة توصف بأنها ذات وجهين، وهذه الشريحة من الأصدقاء من أشرِّ الناس على الشخص؛ لأنها تخدعك ولا تبالي بالمبادئ، فتتكلم في ظهرك بأريحيَّة وتقابلك بحالة وهيئة تخالفان جوهره تمامًا، وهذا النوع من البشر يشبه المنافق في كل تصرفاته، يلقاك بوجه ويتكلم في ظهرك بالسوء. وقد وردت أحاديث نبويَّة تحذِّر من اتخاذ أصدقاء من هذه الفئة؛ ففي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عنهُ - أنَّ رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قال: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشد له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه» (رواه البخاريُّ ومُسلمٌ). وفي لفظ: «تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (البخاريُّ). فالمعدن كما ذكر الحديث طيب بالأساس، سواء في الجاهليَّة أو بعد الإسلام؛ فمن كان معدنه نقيًّا صادقًا سيظل هكذا على الدوام، ومن كان معدنه سيئًا يتلوَّن كل وقت بلون فهذا هو المقصود بـ«ذي الوجهين». وفسَّر أهلُ العلم «ذا الوجهين» بالمنافق وبأن فعله من أشرِّ الأفعال؛ لأنه يُظهر خلاف ما يضمر؛ يخدعك ويكذب عليك وهو في الأصل ينافق ولا يقول الحقيقة على الإطلاق. ولا شك أن هذا الشخص المتصف بذي الوجهين ينشر الفساد بين الناس، يمدح فلانًا ويذهب إلى مكان آخر يذمه ويعيبه، فهذا فساد في العلاقات وتشويه للآخرين دون وجه حق؛ لذلك كان لذي الوجهين يوم القيامة عقوبة مغلظة بيَّنها لنا هذا الحديث الشريف: عن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللهُ عنهُ – أنه قال: قال رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» (رواه أبو داود). فالجزاء من جنس العمل، فذو الوجهين عقوبته لسانان من نار؛ لأن لسانه كان له حالان: منافق يُظهر وجهًا ويُضمر آخر، فكان عقابه شديدًا، نعوذ بالله من ذلك. وبعد بيان هذا الصنف وتوضيحه يتبادر إلى الأذهان سؤال: هل ذو الوجهين أمين؟ الإجابة: بالطبع لا يمكن لشخص منافق أن يكون أمينًا على شيء، فعلينا الحذر منه وألَّا نفشي له سرًّا من أسرار حياتنا ولا نصادقه بشكل مبالغ فيه، بل نتعامل معه على قدر الحاجة والضرورة فقط. ولا يصلح هذا النوع أن يكون صديقًا حميمًا نأتمنه على أسرارنا المهمَّة أو حتى نتعلَّق به بوصفه شخصًا مهمًّا في حياتنا؛ لأنه شخص يسعى دائمًا إلى الإفساد بين الناس وتفريق شملهم ونزع المحبة والألفة من القلوب؛ لذا لا نتخذه خليلًا ولا نأتمنه بأي حال، وهذا ما وضحه لنا النبي - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - ففي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عنهُ – أنه قال: إن رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – قال: «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا» (رواه البخاريُّ ومُسلمٌ). فأُوصي نفسي وإياكم بالاهتمام بأمر الصحبة ومصادقة أصحاب المعادن الأصيلة النقية الذين لا تغيرهم السنوات ولا يتلوَّنون في كل موقف بلون، والحذر كل الحذر من ذي الوجهين الذي لا يعرف صداقة ولا يحب الخير لأحد؛ لما في قلبه من حقد وغلٍّ لغيره.