14 سبتمبر 2025
تسجيلبعد الاحتلال الغربي للعراق في 2003، قال نجم الدين أربكان رئيس الوزراء التركي الراحل" إذا فكر الغرب في الدخول إلى الأراضي السورية فاعلموا أن الهدف الأصلي هو تركيا بالدرجة الأولى".ويبدو أن تطورات الأحداث خلال الشهور الأخيرة تؤكد ما تنبأ به أحد أقطاب التيار الإسلامي في تركيا، وهناك العديد من المؤشرات التي تدل على ذلك، أبرزها التناغم الشديد في الدور الروسي الأمريكي في الأزمة السورية، خاصة منذ التدخل العسكري الروسي المباشر، والذي يهدف بشكل أساسي إلى استخدام الثورة السورية في إعادة تقسيم المنطقة على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، فيما يعرف باتفاق "سايكس بيكو"، والذي كانت روسيا أحد أطرافه حينها لكن انسحابها من الحرب جعل الاتفاق قاصراً على بريطانيا وفرنسا فقط.والمؤشر الآخر يتمثل في التخلي الأمريكي الأوروبي عن تركيا، والذي ظهر في التنسيق الأمريكي الروسي لمواجهة الموقف التركي من خلال وضع تركيا تحت الضغط المباشر عبر تقديم الدعم المادي والعسكري لعدو تركيا اللدود وهم الأكراد من أجل إقامة دولة لهم في شمال سوريا شبيهة بدولتهم في شمال العراق، وهو ما يمثل انتهاكاً للخطوط الحمراء التركية التي تمنع قيام مثل هذه الدولة التي ستؤدي إلى دعم مطالب أكراد تركيا في إقامة دولتهم أو الانضمام للدولة الوليدة، وهو ما يعني تقسيم تركيا نفسها بعد أن تم تقسيم إمبراطوريتها في الحرب العالمية الأولى باتفاق سايكس بيكو.وأيضا تخلى الأوروبيون شركاء حلف الناتو عن تركيا في مواجهة هذه الضغوط والذي ظهر بشكل جلي بعد قيام تركيا بإسقاط المقاتلة الروسية وتصاعد حدة التوتر بين البلدين، حيث لم يظهر حلف الناتو جدية كبيرة في إمكانية الوقوف بجانب تركيا في حال دخولها حرب مع روسيا.بل إن وزير خارجية لوكسمبورج جان أسيلبورن أكد لمجلة دير شبيغل الألمانية، أنه "لا يجوز أن يسمح الناتو بزلق قدمه إلى تصعيد عسكري مع روسيا على خلفية التوترات الحالية بين الأخيرة وتركيا"، مضيفاً أن حالة التضامن داخل الناتو لا تكون إلا بتعرّض دولة من دوله إلى عدوان واضح وجليّ".وتأتي تصريحات أسيلبورن لتؤكد حالة التخلي من قبل الناتو والتي لها جذور تاريخية حينما خان الحلف تركيا في العديد من المواقف التاريخية أبرزها عام 1974 عندما اتخذت تركيا قرار الحرب وقامت بإنزال عسكري في قبرص حينها تخلى الحلف عن تركيا وبعث الرئيس الأمريكي آنذاك رسالة للحكومة التركية نصها أننا لن نقف إلى جانبكم إذا دخلتم في حرب مع الاتحاد السوفيتي.وتأتي تلك المؤشرات التي تؤكد تحالف القوى الدولية الصديقة والعدوة لتركيا في مواجهة الموقف التركي من الثورة السورية وتداعياتها على الإقليم، بالتوازي مع تحالف القوى الداخلية في تركيا ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتبنى تلك التوجهات الخارجية التي وضعت تركيا في موضع الخطر المحدق. وهو ما ظهر بوضوح خلال تجربتي الانتخابات البرلمانية خلال النصف الثاني من العام الماضي حينما تكاتف الجميع في الداخل والخارج من أجل إسقاط حكومة الحزب ومنعه على الأقل من الانفراد بالسلطة. ولكن الحزب نجح في مواجهة هذه الخطة واستطاع في النهاية الاحتفاظ بالسلطة منفرداً وبالتالي استمرار السياسة الخارجية التي يعتمدها منذ بدء الأزمة السورية.هنا كان لابد لتركيا أن تتحرك لمواجهة دائرة الخطر التي أصبحت تحيط بها، فقامت بالتنسيق مع كل من السعودية وقطر اللتين تحملان نفس التوجه بالنسبة للأزمة السورية التي ترى ضرورة التصدي لمحاولات القوى الدولية بإعادة تقسيم المنطقة على حساب دولها ومصالحهم الإستراتيجية.هذا التنسيق أنتج أفكاراً تدور في مجملها على ضرورة تصعيد المواجهة من جانب تركيا والسعودية وقطر من أجل وقف هذا الخطر، فكان الإعلان عن التخطيط للتدخل البري في سوريا وهو الإعلان الذي واجهته روسيا وإيران وحتى الولايات المتحدة بعاصفة من النقد والتهديد والوعيد، لكن ذلك لم يمنع تركيا والسعودية من بدء الاستعداد في تنفيذ خطة التدخل البري.وحينما حاولت روسيا وإيران وأمريكا وقف هذه الاستعدادات التي بدأت بإرسال السعودية لمقاتلاتها إلى قاعدة انجرليك التركية القريبة من الحدود السورية، من خلال الإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار، سارعت تركيا بإشهار أحد أسلحتها الحديثة التي ستغير من قواعد اللعبة في الحرب السورية، والمتمثل في منظومة تشويش الرادارات التركية الصنع "كورال"، والتي نشرتها على الحدود مع سوريا، وأدت إلى توقف تحليق الطائرات الروسية والأمريكية ليلاً، إضافة إلى عدم قدرة الطائرات الروسية على الوصول إلى أهدافها بدقة. كما أن هذه المنظومة تستطيع عرقلة كل أجهزة الرادار وتشويش حركة الصواريخ وقاذفات الدبابات عن بعد 100 كيلومتر، وهو ما يعني شل فاعلية منظومة الدفاع الجوي الروسي إس 300 وإس 400، أحدث ما أنتجته العسكرية الروسية والتي تعول عليها كثيراً. ويشير محللون إلى أن الخطوة التركية، التي فاجأت الروس والأمريكان على السواء، تأتي في إطار تغيير معطيات الواقع من أجل كسر دائرة النار التي تريد القوى الدولية وبعض القوى الإقليمية وضعها فيها، وتطبيق قاعدة "الهجوم خير وسيلة للدفاع".لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الخطوة التالية لنشر منظومة التشويش هو التدخل البري بعد تحييد الطيران الروسي أم أن الأمر هو مجرد إنذار من جانب تركيا بأنها مازالت تملك الكثير من الأوراق التي يمكن أن تغير معطيات الواقع؟