25 سبتمبر 2025
تسجيلعزز بيان الفيفا ما أجمع المعلقون العرب والأوروبيون والأمريكان واليابانيون على أن النسخة القطرية لمونديال لكأس العالم بالإضافة إلى النجاح الكامل في التنظيم والتأمين وانسياب النقل وتوفير الإقامة لمليون و200 ألف ضيف قدموا مرحبا بهم من القارات الخمس فإن هذه النسخة القطرية الاستثنائية أيضا كانت حسب تحليل آلاف من الإعلاميين والدبلوماسيين والأكاديميين من كل أرجاء العالم درسا قاسيا بل ضربة قاضية للذين ما يزالون متمسكين ببقايا الفكر الاستعماري (في الحقيقة الاستخرابي) العنصري الاستعلائي وهم الذين يناصبون ديننا الإسلامي الوسطي الحنيف عداء بلا مبررات ولا حجج! نعم لقنت دولة قطر الأصيلة لهؤلاء العنصريين درسا في التاريخ والحضارة والشريعة الإسلامية لن ينسوه أبد الدهر لأن ما كشفته كأس العالم الأخيرة خلال فترة قصيرة (شهر واحد) في الداخل والخارج يعتبر أهم إنجازات المناسبة العالمية- كما أكدت وكالة (الأناضول) في تقرير لها صدر يوم 21 ديسمبر الماضي وهنا تساءل الدكتور محمد هنيد أستاذ العلوم السياسية في جامعة السربون الفرنسية قائلا على صحيفة (عربي 21) اللندنية: "هل انتهت حقا كأس العالم؟" وأجاب بنفسه عن سؤاله بقوله: "نعم لقد خُتمت المباريات وانتهت بفوز فريق الأرجنتين تتويجا باللقب لكنّ التصفيات الحقيقية بدأت للتو. لقد شكلت كأس العالم قطر 2022 منعرجا تاريخيا على أكثر من صعيد خاصة ما تعلق منه بالمواجهة الحضارية والصدام الثقافي الذي طرح على مستويات كثيرة بين الشرق والغرب" وهنا أضيف أنا بأن هذا الفكر اليميني المتطرف تعمد إنهاء المواجهة بإقرار حقيقته هو وهي أن المواجهة حسمت لصالح الغرب من خلال كتابين أساسيين هما (صدام الحضارات للمفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون) و(نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي من أصول يابانية فوكوياما) ولنبق مع استطراد المفكر التونسي العربي الأصيل محمد هنيد حيث انتهى إلى استنتاج موثق حين قال: "غيرت الدوحة نظرة العالم إليها وإلى المنطقة العربية تغييرا حاسما وتحولت الهجمات الإعلامية ضدها إلى اعتراف بالنجاح وإقرار بالتفوق وتصريح بقدرة البلاد التنظيمية التي فاقت كل التوقعات". مثبتا في مقاله بعنوان (القوة الناعمة القطرية) بالحجج والتعليقات الغربية بأن الغرب أدرك قبل الشرق أن دولة قطر حققت بواسطة القوة الناعمة ما لم يحققه غيرها بالقوة الصلبة وتحول "البلد الصغير" إلى قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب لا في عدد الجيوش أو حاملات الطائرات أو راجمات الصواريخ بل في الفعل التنظيمي والكفاءة الدبلوماسية والحكمة السياسية والقدرات التواصلية. ومضى الزميل والصديق محمد هنيد الى تحليل سياسي وسوسيولوجي واستراتيجي لتفسير النجاح القطري الساطع بالقوة الناعمة فقال عنها إنها ببساطة مجموع الإمكانيات التي تستعملها الدول والحكومات لتفادي استعمال وسائل القوة الصلبة من الجيوش والعقوبات والحصار وغيرها لفض النزاعات أو تفعيل مبدأ السيادة أو منع الأزمات. القوة الناعمة هي المقابل للقوة الخشنة أو القوة الصلبة وهي مؤسسة على وسائل غير مادية مثل اللغة والثقافة بمفهومهما الشامل من فنون ورياضة وتعليم وتقاليد إلى جانب الدبلوماسية والوساطات والتحكيم والمعارض وتنظيم الندوات والمؤتمرات وإعلان الجوائز العالمية الثقافية (مثل جائزة دولية للترجمات) وغيرها من الأدوات الرمزية التي تحاول عبرها الدول تكوين خطوط دفاعية رمزية تؤمن سيادتها وثروتها وتخرج بها من مجال المفعول بها إلى مجال الفاعل. وأكد د. هنيد أن القوة الناعمة هي النقيض الطبيعي للحروب مثلا وهي أي الحروب واحدة من أوجه فشل أدوات القوة الناعمة في منع الاصطدام ونتائجه الكارثية. بناء عليه فإن استدعاء أدوات القوة الصلبة ممثلة أساسا في السلاح إنما ينتج عن فشل المفاوضات والوساطات والتحكيم في سبيل منع الانزلاق العسكري" ويقدم الدكتور أمثلة من التاريخ العربي الحديث ليشرح عبثية اللجوء للحروب ولا جدوى الاحتكام للمواجهات المسلحة لانتصار فريق على فريق أو دولة على دولة! فكتب مواصلا التعمق في مضمون محورنا الأهم وهو توفق قطر الى فرض قوتها الناعمة الناجعة مما جنبها مخاطر الأزمات العنيفة، بل وساهمت دولة قطر بوساطاتها الموفقة الى إحلال السلام والأمن في السودان ولبنان وفلسطين وأفغانستان. ونقرأ للدكتور هنيد عرضه للنماذج التاريخية فيقول: "صحيح أن احتلال العراق الأول مطلع التسعينات وغزوه الثاني في 2003 كان تخطيطا أمريكيا غربيا لتدمير واحدة من أهم الحواضر العربية والإسلامية لكن ذلك ما كان ممكنا دون الأخذ في الاعتبار سقوط النظام العراقي في مصيدة غزو الكويت ثم رفض العراقيين الانسحاب منه رغم كل الوساطات العربية والإسلامية والدولية. ويذكر د.هنيد بليبيا كأنموذج ثان للخراب فيقول: " في ليبيا رفض القذافي الانسحاب من السلطة إبان الثورة رغم كل الدعوات والوفود التي تحاول إقناعه بالنجاة بنفسه ومنع دمار بلاده لكنه أبى واستكبر ورفض كل الأدوات الناعمة القادرة على إنقاذه وإنقاذ عائلته وإنقاذ بلاده وهو الأمر الذي نجح فيه نظام بن علي في تونس ونظام مبارك في مصر على الأقل في منع الانزلاق إلى حمامات الدم! وينتهي د.هنيد إلى تحليل ما سماه (قطر وفجر القوة العربية الناعمة) فكتب يقول: "ليست كأس العالم في قطر إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة تطوير الدوحة لقواها الما فوق جغرافية وما بعد ديمغرافية. ما معنى ذلك؟ الجغرافيا تؤكد أن قطر دولة صغيرة جدا أما ديمغرافيا فعدد سكانها قليل أيضا وهو الأمر الذي يفسر النجاح الكبير الذي حققته الدولة مقارنة بضعف إمكانياتها الجغرافية والديمغرافية. أي أن الدولة لا تملك فضاء كافيا ترتكز عليه في الاقتصاد والفلاحة والصناعة والتجارة.. ولا تملك العدد الكافي من السكان لتحريك قطاعات الاقتصاد وخلق الثروة كما هو الحال في غيرها من الدول العربية مثل مصر أو السودان أو العراق أو الجزائر.. لكنها رغم ذلك نجحت في رفع أعظم التحديات في الإعلام والتعليم والثقافة والرياضة والدبلوماسية والخدمات والنقل هذا فضلا عما وفرته لشعبها من أفضل منوال تعليمي عربيا ومستوى معيشي ممتاز (وأنا أضيف بأن لقطر أفضل مطار دولي في العالم وأفضل شركة طيران عالميا وفازت بالدرجة الأولى بشهادة المنظمة العالمية للصحة في المرفق الصحي والطبي والتأمين وتطور العلاج) ويشرح د.هنيد أحد أسباب الإشعاع العالمي لدولة قطر فيكتب: "منذ وقت مبكر ومنذ تأسيس قناة الجزيرة العربية ثم الإنجليزية ثم الوثائقية والمباشر أدرك القطريون أنهم يملكون مكسب الوعي بأدوات القوة الناعمة البديلة كقوة للتأثير وصناعة الوعي وتحريك الرواسب وتشكيل فكر حضاري جديد وهي قوة لا محدودة التأثير ولم تكن المهمة سهلة بل كانت الطريق إلى الإلمام والتحكم بأدوات القوة الناعمة محفوفة بالمخاطر التي ظهرت في الحملات الإعلامية المسعورة التي لا تتوقف ولن تتوقف كما تظهر في سعي القريب قبل البعيد إلى إيقاف القاطرة القطرية خوفا من خروجها عن السيطرة فتكاد الدوحة تفلت من مخالب الساعين إلى إلحاقها بمزارع العجز العربية فكيف تجرؤ دولة صغيرة بهذا الحجم على منافسة أعتى الإمبراطوريات الغربية قدرة على التنظيم وحكمة في التدبير وكفاءة في إنجاح أعقد المنافسات العالمية ؟ وختم د. هنيد هذا التحليل الأكاديمي المتميز باستخلاص أهم عبرة من التحليل فقال: "سبقت قطر كل الدول العربية في تطوير أدوات القوة الناعمة منذ منتصف التسعينات لتتوج هذه المسيرة اليوم بأفضل وأنجح كأس عالم على مرّ تاريخ الكأس باعتراف الصحافة الغربية والعالمية قبل الإقليمية والعربية".