15 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); تفكيك مفهوم الإنسان ليس كافياً أن نقول إن الإنسان هو الركيزة الأساسية للنهضة، فقد طال التشويه حتى مفهوم الإنسان وصارت المفردة مشحونة بدلالات ليست أصيلة خصوصاً إذا استخدمت في سياق قطري. فمثلاً، ما المقصود إذا قلنا: إنسان سوداني؟ هل الإشارة إلى الإقامة الجغرافية أم الدم أم الثقافة أم ماذا؟ إن محاولة نسبة النهضة إلى إنسان مخصوص ينطوي على القول إن الشعب المعين هو بالضرورة جماع إنساني متميز ويمكن أن يقوم وينهض على أساس هذا التفرد والصفات التي تميزه عن غيره من الشعوب. هذه الفكرة ربما كان يسندها بعض المنطق عندما كانت الشعوب هي تجمعات قبلية تربطها أواصر الدم بما يحمله من مشتركات جينية، كما تربطها ثقافة مشتركة وتاريخ طويل. ولكن الشعوب بعد الدولة القطرية فقدت في كثير من الأحيان – خصوصا في الدول حديثة التكوين – ذلك الرابط الدموي والتجانس الثقافي القائم على تاريخ مشترك طويل. لذلك فإنه ينبغي عند الحديث عن النهضة المعتمدة على الإنسان أو الشعب الذي هو مجموع من الأناسي في البلد الواحد، ينبغي أن نكون حذرين من تعميم صفات إنسانية معينة على الشعب واعتبارها رصيداً يمكن التعويل عليه لبناء النهضة على أكتاف الناس. وحتى يستبين الأمر بشكل أفضل نضرب مثلاً بالشعب السوداني وما يظن أنه هو وما يظن أنها صفاته وخصائصه، ولنبدأ بتفكيك المصطلح.• ما هو الشعب؟ الشعب بحسب القواميس العربية هو إشارة إلى التفرق وبعضهم قال إنه يشير إلى التفرق والتجمع معاً فهو من الأضداد، ويطلق على القبيلة الكبيرة. بينما يعرف قاموس أوكسفورد كلمة شعب (people) بأنه مواطنون ينتمون إلى بلد معين أو أعضاء أمة أو مجتمع أو اثنية معينة. على هذا فإن الشعب السوداني هو مجموع الأفراد التي تنتمي إلى القبيلة أو مجموعة القبائل السودانية، أو هو مجموع المواطنين الذين ينتمون إلى دولة السودان، وهذا يستدعي أن نعرف ما هو السودان.• ما هو السودان؟ معلوم أن السودان هو اسم أطلق عبر التاريخ على مساحات جغرافية مختلفة وظل إشارة إلى أرض السود. وقد أطلق في فترة على طول الخط الإفريقي جنوب الصحراء، ثم أطلق على شريط النيل جنوب أسوان حتى منابع النيل في يوغندا، ثم أطلق على الجمهورية التي رسمها الانجليز وشملت دارفور وسواكن و(الجنوب)، ثم أخيراً أطلق على ما تبقى من ذات البلد بعد انفصال الجنوب. وكلمة الشعب السوداني أو السودانيين كانت تطلق على قاطني هذه المساحات المختلفة ما يعني أن الكلمة لم تحمل معنى ثابتاً بل كانت تتغير بتغير الجغرافيا والتاريخ.كل هذا يدعونا لإعادة النظر في (شخصنة) الشعوب القُطرية بشكل عام، والشخصنة أعني بها إطلاق صفات شخصية على عموم الشعب بحيث يصوَّر وكأنه مكون من مجموعة أفراد يحملون صفات (شخصية) عامة متكررة وهامش لبعض الاختلافات الفردية. بتعبير آخر، شخصنة الشعب هي نحت لقالب ثقافي يشكل الملامح الثقافية الأساسية للشخصية وتصوير الشعب على أنه مجموع من اللبنات التي تأخذ جميعاً شكل ذلك القالب حتى وإن اختلفت المادة المكونة لكل لبنة.مثال ذلك هو أن نقول إن الشعب السوداني يمتاز بالشجاعة والكرم والكسل وقلة احترام الوقت، ما الذي يجعل فرداً من الحلفاويين وآخر من البجا وآخر من الفور وآخر من الأنقسنا جميعاً يحملون هذه الصفات؟ لا شيء، سوى أن الحس القومي لدى مواطني أي قطر يدفعهم لتصوير اجتماعهم الشعبي على أنه يقوم على أكثر من مجرد التقسيم الجغرافي الذي أجراه الأوروبيون أو غيرهم في فترة تاريخية معينة، بل يقوم – كما يصورونه – على مشتركات عنصرية وثقافية وتاريخية راسخة تجعل منه خليطاً متجانساً، والاختلافات التي تبدو عليه يصورونها على أنها تنوع يثري هذا الاجتماع ولا يعكره، مجرد أوهام فرضتها الحاجة لإيجاد جوامع لأخلاط من الناس المختلفين غير جامع القطر السياسي، ولكن هذه الأوهام تكذبها الوقائع باستمرار. فالشعب السوداني ظل حتى وقت قريب يشمل القبائل الجنوبية، ما يعني أن (الشخصية السودانية) بصفاتها المتصورة كانت تشمل الدينكاوي والاستوائي، ولكن بعد أن انفصل الجنوب أصبح الجنوبي في حل من صفات هذه الشخصية ويمكن للجنوبيين أن يصوروا شخصية أخرى تجمع شتاتهم، بينما يعدل المخيال السوداني صورة الشخصية السودانية على استحياء ليحذف منها صفات القبائل الجنوبية العنصرية أو الثقافية ويقدم الشخصية المعدلة على أنها راسخة الثقافة وشديدة التجانس رغم التنوع الشديد فيها!.المفارقة بين المطلوب والواقع هو أن الناس في الواقع تجمعهم دول قطرية لم تراع في نشأتها درجة التجانس بين الناس في الدولة الواحدة بالشكل الذي يمنحها شيئاً قريباً من الشخصية المشتركة. وحيث إن الناس في عالمنا المتأخر قريبو عهد بالقبلية فقد صوروا الشعب القُطري على أنه قبيلة كبيرة كما تقول المعاجم، فاعتبروا أن ذات الجوامع التي تجمع القبيلة الصغيرة يمكن أن تجمع القبيلة الكبيرة كالدم والثقافة والتاريخ المشترك ما يعني أن الصفات التي يمكن أن تعمم على القبيلة الصغيرة، كالقول إن بني مخزوم يتصفون بالشجاعة، يمكن كذلك أن تعمم على القبيلة الكبيرة كالقول إن الشعب السعودي يتصف بالشجاعة. والقول الأول تعميم مقبول ولكن القول الثاني تعميم غير مقبول ويقوم على شخصنة الشعب القُطري دون أسس جامعة تشكل هذه الشخصية المشتركة.أما المطلوب فهو الإقرار بأن مفهوم الشعب القُطري هو مفهوم ديناميكي غير ثابت، وبالتالي فإن الصفات التي تميز هذا الشعب هي في الغالب صفات إنسانية عامة نجدها في كثير من الشعوب، وأن هناك تناسباً عكسياً بين مقدار التنوع في مكونات الشعب القُطري وحداثة القطر من ناحية، وإمكانية شخصنة هذا الشعب أو وصفه بصفات شخصية مشتركة من ناحية أخرى.بالعودة الآن إلى موضوع النهضة واستخلاصاً للشاهد من النقاش أعلاه، فإن الشعب الذي يبتغي النهضة في هذا العصر سيكون في الغالب مقيداً بالدولة القطرية وإشكالات السيادة. بمعنى أن التغيير الذي سيحدثه أو سيرغب في أحداثه أي شعب سيكون محصوراً فيما له فيه سيادة من سلطة سياسية أو مؤسسات مدنية، وأن تجاوز حدود الدولة القطرية يمكن فقط أن يأتي في إطار حراك شعوبي متفق أو تأثير ينتج عنه اقتداء. وحيث إننا فصلنا في القول إن الشعب في الدولة القطرية ليس له في الغالب شخصية خاصة مميزة عن من حوله من الشعوب، وأن تميزه محدود حتى عن عامة شعوب الأرض، فإن إصلاح الإنسان لأجل النهضة لا يكون مبنياً على خصوصية هذا الإنسان القطرية، فمشروع النهضة السودانية لن ينبني على صفات الشخصية السودانية كالكرم والشجاعة والأمانة وحسن الخلق، هذه ليست صفات سودانية بل هي صفات إنسانية يتفاوت الناس فيها بعوامل كثيرة ولكن أقل هذه العوامل هو الدولة القطرية كما أبنت أعلاه.النهضة السودانية ينبغي أن تقوم على الإنسان السوداني بغض النظر عن صفات (الشخصية السودانية) المتوهمة، أما الإنسان السوداني، فهو ذلك الإنسان بصفاته الإنسانية العامة الذي يستوطن السودان بغض النظر عن جغرافيته الآنية، هذه الوصفة ستكفل الاعتماد على الإنسان للنهضة في أي تاريخ أو جغرافيا وبغض النظر عن العنصر أو حتى الدين، فالإنسان الناهض لا يفلح في نهضته لكونه مسلماً أو مسيحياً، بل لكسبه وأخذه بالأسباب المؤدية إلى النهوض والرفعة، فالنهضة إذا تقوم على الإنسان الذي يكافئ مطلوباتها، أما الصفات التي تلحقه دون ذلك فهي سراب في صحراء التخلف، شديدة اللمعان عديمة الري!.