13 سبتمبر 2025

تسجيل

عام الخروج من الوجع

02 يناير 2012

العام الذي انصرم منتصف الليلة قبل الماضية – السبت – لم يكن عاما عاديا في تاريخ أمة العرب، كان استثنائيا ومغايرا بكل المقاييس على الأقل على مدى تبلور الدولة العربية الحديثة والتي كانت إطلالتها الأولى في مصر مع تولي الباشا محمد علي حكمها في العام 1805. فقد شهدت ثورات التحرر من نظم الاستبداد والقمع والتخلف الاقتصادي والاجتماعي ودفعت الشعوب إلى تصدر المشهد السياسي بعد أن كانت تقيم في الظل والعتمة تكابد الوجع والركون إلى الإذلال وتعاني شظف العيش وهشاشة الكرامة الإنسانية. من كان يصدق أن يشهد هذا العام المقدس سقوط أربعة من أسوأ حكام الأمة "بن علي ومبارك والقذافي وصالح" وارتفاع رايات الحرية في تونس ومصر وليبيا واليمن واستمرار ثورة الشعب السوري التي تبدو مصرة على اللحاق بشقيقاتها انتظارا لسقوط مستبد آخر مازال قابضا على مفاصل وطن يمقته ويسعى أهله بقوة لإجباره على الرحيل. من كان يصدق أن الشعوب أو بالأحرى الشعب العربي يمتلك كل هذه القدرة المدهشة على امتلاك ناصية فعل الثورة والمثابرة والمجاهدة وحمل السلاح في بعض الأحيان للانتصار على القبضة الأمنية والعسكرية المستشرية في مفاصل الأوطان والتي تحاصر العباد وتنهب الثروات وتبدد مقومات العزة والوطنية وتذيب الروح الأصيلة الكامنة في الشعوب. من كان يصدق أن شبابا كان يوصم العدمية في معظم الأحيان ومجمدة طاقاته ومبعثرة إمكاناته ومعرضا لمتابعة العسس والبصاصين بكل الأصناف هو الذي يقود هذه الثورات التي أزهرت الحدائق بعد أن تيبست وأعادت المياه إلى ضفاف الأنهار بعد أن أصابها الجفاف والضمور. سأذكر تجربتي الشخصية في مصر فقد كنت واحدا من الموقنين بوقوع الثورة إن عاجلا أو آجلا خاصة بعد عودتي إلى القاهرة في منتصف العام 2008 بعد سنوات عمل بالدوحة المحببة للقلب والروح اقتربت من العشرين. لقد رصدت الأحوال بعيون عائد من الخارج كانت الدموع مقيمة في المآقي ونبض القلوب يكاد يكون متوقفا بعد أن بلغ الظالمون المدى فثمة مشروع للتوريث يجري تمريره بتؤدة وعبر كل المسارات وثمة سطوة شديدة وقاسية للمال والسلطة في تزاوج مريب وثمة قهر أمني وسلطوي لم يعد بوسع أحد أن يوقفه. تمدد إلى كل مفردات الواقع. والأهم من ذلك أنه لم يعد موقع قدم لفقير أو منتمي للطبقة المتوسطة المجال مفتوح للأغنياء من طبقة رجال الأعمال ونخبة حاكمة تناست أن ثمة شعبا هي في حاجة إليه لكي تمارس عليه شهوة التسلط، التعليم مهمل والثقافة قشرية والإعلام موظف للحاكم ونجله وزوجته والزمرة المحيطة والوطن مستباح للأعداء وحالة تبعية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة غير مسبوقة لقد كانت هناك دوائر عدة تحذر وتبعث بالرسائل من أجل إقناع السلطة بإجراء التغيير وقد أسهمت في هذه الرسائل عبر سلسلة حوارات مع أقطاب في السلطة ومفكرين وهم الدكتور علي الدين هلال مسؤول الإعلام بالحزب الوطني المنحل والرجل الذي يوصف بأنه المربي السياسي لجمال مبارك والدكتور مصطفى الفقي والذي خرج إلى يسار النظام بعد أن تمسك ببعض قناعات قومية مازال يؤمن بها فدفع ثمنها إبعادا من الدائرة الضيقة المحيطة برأس النظام ثم بالكاتب الكبير مكرم محمد أحمد لصحيفة الأهرام ومجلة الأهرام العربي الأسبوعية وكلهم أجمعوا أن ثمة حاجة إلى تغيير وإن تراوحت مستويات التغيير الذي كان يطالب به كل منهم لكنها دعت بشكل واضح إلى الإسراع بالتغيير من داخل النظام قبل أن تهدر الفرص التي كانت تتاح له بين كل وقت وآخر ولم يتردد مكرم في مطالبة مبارك بقيادة هذا التغيير بعيدا عن المجموعة المحيطة به والتي اتهمها بأنها تنافقه ولا تفعل شيئا إلا الدفاع عن مصالحها الهائلة التي تراكمت من فرط بقاء النظام دون تغيير. لكن النظام كان قد بلغ حالة مفرطة من الجمود والترهل والثقة الزائدة بالذات بل لم يلتفت إلى تقارير لأجهزة تابعة له ومن بينها أجهزة الأمن القومي التي حذرت ووضعت خيارات التحرك للقيام بالتغيير المنشود أو على الأقل تطبيق جزء منه بالرغم مما يبدو على السطح من مؤشرات كانت تحتم ضرورة القيام بخطوات تتفاعل مع متطلبات مشروعة. لكنه كان مصمما على أنه يمضي في الاتجاه الصحيح وأن غيره في الجهة الخاطئة. وعندما تلقى النظام إشارات الثورة في تونس وهروب بن علي سارع زبانيته إلى القول إن مصر غير تونس وهي نفس المقولة التي كررها القذافي فيما ومازال يرددها بشار الأسد وقد استمعت في هذا السياق إلى المهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة الخارجية المصرية إبان ترؤسه للاجتماعات التمهيدية للقمة العربية الاقتصادية التي عقدت بشرم الشيخ في يناير المنصرم عندما سئل من الصحفيين بخصوص تكرار النموذج التونسي في مصر وهو يقول " إن الحكومة المصرية تقدم دعما لـ60 مليون مواطن عبر البطاقات التموينية" وهو ما يمثل لها صمام أمان من الثورة الشعبية. كان يظن أن الثورة في تونس اندلعت لأسباب اجتماعية فقط بعد أن حرق الشاب البوعزيزي نفسه احتجاجا على ظروف فقره وقمع الشرطة له وهو يبحث عما يسد جوعه لكن رشيد أو غيره من رموز نظام مبارك لم يعر أهمية للأسباب الأخرى الكامنة في طبيعة النظام ذاته والتي من فرط تراكمها وتجذرها باتت سافرة للعيان. لم يفكر النظام في التعامل السريع مع معطيات الثورة الظاهرة أمامه، تجاهلها دفعها للتبلور أكثر للبروز بشكل واضح فواصل القمع وأعمى الله بصيرته لتتهيأ له أسباب السقوط. وفي الخامس والعشرين من يناير المنصرم تحركت طليعة الشباب هادرة في شعاراتها مطالبة بكبح جماح القبضة الأمنية ومكافحة الفساد لكن جهاز الأمن الفاسد تعامل معهم بقسوة مفرطة غير أنه بعد ثلاثة أيام انهار على الفور بعد أن صمد الشباب الذين لحقت بهم جحافل الشعب المصري. خرجوا من كل صوب وحدب من الحارات بالمدن والنجوع بالقرى البعيدة وبات مطلب إسقاط النظام هو العنوان الوحيد حتى تحقق في الحادي عشر من فبراير بتنحي مبارك عن الحكم فسقط معه للأبد مشروع التوريث ومعادلة السلطة والمال الفاسد ومشروع القهر وغياب العدالة الاجتماعية. وعلى مدى شهور العام الفائت دخلت الثورة المصرية منحنيات حادة وتكالبت عليها قوى الثورة المضادة وكادت أن تسقط تحت سنابك جحافلها التي لم تتوقف عن توجيه الضربات إليها بين كل فترة وأخرى تطارد ثوارها وتحاصرهم وتدفعهم إلى الاستشهاد دفاعا عنها في الميادين والشوارع والطرقات وتقدم حرائر مصر الثمن من شرفها جراء تمسكهن بجوهرها والإصرار على بقائها نقية بهية عفية. إن الثورة المصرية ولدت لتبقى. لتظل إِشعاعا لمحيطها القومي والإقليمي ولتعيد صياغة ملامح الوطن بعيدا عن الخنوع والتبعية والسقوط في مستنقع البلادة السياسية مثلما كان الحال عليه في زمن مبارك. هي لم تكتمل بعد لكن مشروعها مازال قويا صامدا قادرا على الفعل المؤثر ولعل الإشارات التي تجلت بنهاية العام المنصرم متمثلة في إجراء أول عملية انتخابات وفق المحددات الديمقراطية الصحيحة وقواعد الشفافية والنقاء التي غابت عنا طولا تبعث على الاطمئنان على زمنها الآتي المفعم بالحرية والزاخر بالعدالة الاجتماعية واستقلالية القرار الوطني وللحديث بقية. السطر الأخير: في المدينة الزرقاء أهيم بالطرقات أبحث عن صبية عفية تدفع عنها الخوذات وركض الجند المبهورين بأحذيتهم الثقيلة وعلاماتهم الحمراء قلت لها: أيتها القيامة الأيقونة القادمة امنحينا رائحة عطرك الطالع من فرط الضربات اسكني فينا علمينا وقع الموسيقى تنبع من دموعك السافرات كوني وقودا لزمن الثورات