16 سبتمبر 2025
تسجيلطرح الدكتور/ فهمي جدعان في كتابه [ الطريق إلى المستقبل] ما قاله بعض الباحثين حول تعليل الإخفاق العربي تاريخياً الذي يمتد كما قالوا إلى «الجذور المجتمعية الضاغطة»، وتأثير القبيلة العميق في التاريخ السياسي العربي فيرد على هذا التفسير:»الحقيقة هي أننا نعقد الأمور على أنفسنا كثيراً، إن نحن توخينا باستمرار العودة إلى الوراء عشرين أو ثلاثين قرناً أو أكثر من أجل أن نفهم واقع الأحداث، التي تجري أمامنا.. والذي نخشاه هو أن يترتب على ذلك التهوين من خطورة الطاقات والإمكانيات والانفعالات والرغبات والمنافع والوقائع المحدثة والإرادات الذاتية ـ الطيبة أو الرديئة ـ لأولئك الذين يفعلون ويوجهون أقدار مجتمعاتهم ودولهم في ضوء هذه المعطيات».ويختلف د/ جدعان مع رؤية هؤلاء في رد أزماتنا إلى الجذور المجتمعية القديمة في خط ممتد بين الماضي والحاضر، في شبه رفض لهذه الرؤية فيقول «يتعذر علي أن أفسر وقائع الإخفاق الكبرى التي أدت إلى أزمة الآفاق المسدودة خلال العقود الحاسمة من هذا القرن، ببؤر متحكمة في طباع عرب الجاهلية سواءً أكانوا قيسية أم يمانية أم غير ذلك من هذه القبائل التي لم تعد تثير نفوسنا، إلا ذكريات هشة غامضة الملامح: ما الذي يأذن لنا بأن نرد «الفعل السياسي» الذي أدى إلى الكارثة المشهودة في السادس من حزيران من العام 1967م إلى عقلية مضر أو قيس أو غيلان أو الفراعنة أنفسهم ؟ وهل ينبغي علينا أن نرجع إلى عقلية «داحس والغبراء» لتفسير الكارثة الكبرى الثانية التي حدثت في الثاني من آب من العام 1990 وما ترتب عليها من مصاعب ورزايا وتطورات، اعترت الكتلة العربية برمتها وجملة الأوضاع الإستراتيجية التي حكمت خلال نصف قرن، العلاقات المركزية والمحورية في الجناح الشرقي من العالم العربي؟».ويعتقد أن هذه الأحكام ـ انطباق سلوكيات العرب الراهنة على العقلية العربية القديمة ـ عقلية القبيلة والعشيرة في أفهامها وطبائعها، وأفكارها، ونهجها، على الرغم من أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، من الصعب الاقتناع به كسلوك متجذر لدى العرب، وتركيبات مجتمعية ثابتة، لكن «إذا كانت مسالك الناس من حولنا محكومة بالعقلية القبلية مثلاً، فليس ذلك لأن هؤلاء الناس هم بالجوهر والماهية ذوو عقليات قبلية بالطبع، وإنما على وجه التحديد لأن الدولة التي تقوم على شؤونهم تريد لهم لسبب تعرفه الدولة نفسها ـ ويمكن لغيرها أن يعرفه ـ أن يكونوا كذلك، وإلا فليس عليها أقل من أن تلغي بعض القواعد والأحكام والقوانين بضربة واحدة ـ طالما أنها تفعل ذلك في ميادين أخرى وتنجح ـ وذلك ليتسنى تغيير المسار والحراك واستشراف مستقبل آخر. وإذا كانت الغالبية العظمى من الأفراد تنحو في مسلكها الاجتماعي منحىً مضاداً أو مناقضاً للسلوك الديمقراطي المتحضر، فليس ذلك لأن في هؤلاء الأفراد كروموزومات ثقافية أو بيولوجية عمرها عشرون أو ثلاثون قرناً أو ما شاء الله، وإنما لأنهم عادات وأخلاق وأنماط سلوك في المنزل والشارع، وفي السوق وفي المدرسة، وفي الحياة العامة، مناهضة لذلك السلوك، وذلك منذ سنوات العمر الأولى. دليل ذلك أنه يكفينا أن نضع هؤلاء الأفراد، منذ تلك السنين الأولى، في بيئة ثقافية اجتماعية، يسود فيها سلوك متباين حتى يترعرع هؤلاء الأفراد، على نحو آخر بـ «عقليات» مباينة لتلك التي كان يمكن أن تتلبسهم ولو أنهم بقوافي ذلك الكهف القديم». ويرى د/ جدعان أن هذا النمط من السلوك المكتسب، ينطبق على الأطفال في سنوات العمر الأولى، كما ينطبق على الكبار أيضاً، والتجربة تصرخ بأنهم إذا امتدت بهم الإقامة، ولم يعودوا إلى حماهم، فإنهم في الغالب الأعم يتشربون ويتمثلون عادات وأخلاق ومسالك أهل هذه البلدان الجديدة. وفي ختام مناقشته آراء هؤلاء المفكرين والباحثين، يرى د/ فهمي جدعان أن علاج الذي نعانيه في عصرنا الراهن، ووقف هذه التراجع وهذا التأزم الذي أصبح ملازماً لأمتنا لا نحتاج من أجل تبديده وطرده إلى الرجوع إلى علله البعيدة في حياة عرب الجاهلية، أو صدر الإسلام أو الأمويين أو العباسيين أو غيرهم. إن الإجراءات العملية المباشرة، لا أي شيء آخر، هي التي ينبغي أن تكون مناط العمل وهاجس القصد هنا وأية إحالة إلى «الآثار البعيدة» لبعض الوقائع والأحوال الراهنة ينبغي أن تظل في حدود التركيبات المجتمعية الثقافية القابلة للتعديل، لا في حدود البنى الجوهرية الصلبة التي لا تتقبل أي فعل ذي أثر. إذ أفعالنا وسياساتنا، هي ثمرات هذا التخلف، وهذا التراجع النهضوي والتشرذم السياسي، الذي أصبح سمة مميزة يشار إليها بالبنان، وتستغل عالمياً لمصالح وأهداف مغايرة لأهداف هذه الأمة وتصوراتها. وهذا بلا شك نتيجة لسياسة الدولة الحديثة ومن غير المنطقي رد هذه الإخفاقات إلى الجذور والترسبات القديمة، القضية تتعلق بالممارسات السياسية وليس بالجذور المجتمعية.