15 سبتمبر 2025

تسجيل

من دفتر أحوال ثورات الربيع..

01 سبتمبر 2014

كنت - وما زلت – مؤمنا بالثورات التي اندلعت في عدة أقطار عربية منذ مطلع العام2011 والتي شكلت تحولا نوعيا في مسار شعوب هذه الأقطار على نحو دفعها باتجاه حالة حراك متعدد التجليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. بيد أن ما جرى خلال السنوات الثلاث السنوات المنصرمة من وقائع ومحاولة فرض معادلات لا تتسق مع طبيعة تطلعات الشعوب. دفعني لإعادة قراءة المشهد من جديد خلال الأشهر القليلة المنصرمة ولكن بمنأى عن نظرية المؤامرة التي راحت دوائر معينة تروج لها. بحسبان أن هذه الثورات حصيلة تدابير خفية ومستورة لقوى خارجية وليست ناتجة عن براكين الغضب التي تفاعلت في الصدور. فانطلقت هادرة قوية لتسقط النظم الحاكمة التي قامت على معادلة السلطة والثروة والاستبداد واستشراء الفساد. والاستحواذ على مقدرات البلاد وتحييد الأغلبية عن المشاركة في القرار السياسي. وتطبيق أنماط من الديمقراطية شكلية الطابع وتجنب التفاعل مع تجليات العدالة الاجتماعية.ومع ذلك فإن أقطار الربيع العربي - والمقصود بها مصر وتونس واليمن وليبيا أما سوريا. فهي بانتظار اكتمال ثورتها – شهدت خلال العام الأخير تحديدا –وفق التقرير عن أحوال الأمة الذي أعده مركز دراسات الوحدة العربية ونشره في مجلته الشهرية " المستقبل العربي " في عدد يونيو الماضي – سلسة من الأزمات الحادة والمتزامنة والمترابطة. الأمر الذي جعل المراحل الانتقالية التي تمر بها تتسم بدرجة عالية من الصعوبة والتعقيد. متجلية في استمرار حالات الانفلات الأمني مع تصاعد أعمال العنف والإرهاب. وأضيف من عندي. تصاعد الصراع بين مؤسسات الدولة من جهة وجماعات مسلحة تأخذ مسميات عدة وتتبنى توجهات وأيدولوجيات متباينة . وبلغ الأمر في بعض المراحل خاصة الراهنة إلى حد يقترب من الحرب الأهلية مثلما يحدث في ليبيا واليمن. فضلا عن تفاقم حدة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. بسبب تدهور أداء السياسات العامة وتطور العلاقات المدنية – العسكرية وما يقترن بها من مخاطر عسكرة السياسة . وتسيس الجيش -حسب تعبير التقرير ذاته - بالإضافة إلى تزايد الاختراق الخارجي بما يمثل تهديدا للأمن الوطني والقومي. مع تكرس أزمة بناء مؤسسات الدولة في ليبيا واليمن ومؤسساتها في مصر وتونس.وتأتي هذه الأزمات في سياق أزمة بنيوية تتعلق بالفاعلين السياسيين في هذه البلدان وتتمثل أساسا – الكلام للتقرير- في غياب أو ضعف القدرة على بناء التوافق الوطني في شأن أولويات المرحلة الانتقالية وأساليب إدارتها . وهو ما يرتبط بالأزمة الأعمق التي تعانيها النخب السياسية بمختلف أطيافها وانتماءاتها . ومن ثم يبدو أن مستقبل الأنظمة الحاكمة في أقطار الربيع العربي مرهون في الأجلين القصير والمتوسط يعتمد على كيفية معالجتها لثمان قضايا:أولا: قدرتها على صوغ برامج للتكامل الإقليمي مع الأقطار العربية الأخرى. وتطبيقها على كافة الصعد الاقتصادية والدفاعية والثقافية والتربوية بعد أن اتضح عجز الأنظمة القطرية عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المطروحة.ثانيا: التزامن بين معضلتي بناء مؤسسات الدولة الوطنية وتأسيس الديمقراطية. ففي حالة ليبيا واليمن ثمة أخطار محدقة وبدرجات مختلفة على وجود الدولة ذاتها يمكن أن تؤدى إلى التفكك والتقسيم. وفي حالة مصر وتونس فإن شبح الفشل الوظيفي يحاصر أجهزتها ومؤسساتها بمستويات متباينة. وهو ما يفرض في كل الحالات أهمية الاستمرار في الإصلاح المؤسسي وبناء دولة ديمقراطية.ثالثا: قدرتها على اتباع سياسات التعاون والتفاعل مع دول الجوار العربي. لاسيَّما الحوار الحضاري منها. على قاعدة الاحترام المتبادل لمصالح وسيادة الجميع. وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول كافة.رابعا: قدرتها على استشراف التطورات المتسارعة على الصعيد العالمي. وإعادة تموضع الأمة العربية في علاقاتها الدولية بما يعزز من أمنها ويطور من اقتصادها ويحررها من الهيمنة ويصون أمنها على قاعدة" نصادق من يصادقنا" ونعادي من يعادينا ".خامسا: التعامل مع الديمقراطية لا بوصفها مجرد إصدار دستور وإجراء انتخابات. فمع التسليم بأهميتهما كمرتكزين للديمقراطية إلا أنهما ليسا كافيين بمفردهما لتحقيق الانتقال الديمقراطي. إذ من الأهمية بمكان أن تصدر الدساتير على نحو توافقي وأن يتم احترامه في الممارسة وأن تتعزز شرعية الصندوق بشرعية الإنجاز.سادسا: إن الأسلوب الأمني بمفرده لا يكفي لمواجهة التطرف والإرهاب. إذ يتطلب الأمر إستراتيجية متكاملة تأخذ في الحسبان تخفيف منابعهما المادية والفكرية . وتحقيق التنمية في المناطق الفقيرة والمهمشة ومعالجة المظالم والاختلالات التي تعانيها بعض الأقاليم في الدولة.سابعا: إن الحركات والأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية . ستظل فاعلة في المشهد السياسى بشرط التزامها بقواعد الدستور والقانون وبمبادئ الديمقراطية وتداول السلطة من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة وينطبق ذلك بالقدر نفسه على الأحزاب والقوى الليبرالية والقومية واليسارية . وذلك يعنى بوضوح –الكلام لكاتب السطور- أنه لا إقصاء لأي طرف أو فصيل سياسي إلا إذا ثبت تورطه في أعمال عنف تتعارض مع محددات القانون والشرعية أو ارتبط بقوى معادية في الخارج.ثامنا: احتمالات تزايد التدخل الخارجي واستغلال الثغرات التي توجدها الأزمات الممتدة. بما يمثله ذلك من انكشاف واضح للأمن الوطني والقومي.ولاشك أن أقطار الربيع العربي تعيش أوضاعا استثنائية . فقد نشبت فيها انتفاضات شعبية جارفة وأسقطت نظما تسلطية كان هناك اعتقاد بسطوتها وبأسها وقدرتها على الصمود . ومن ثم فإن ما يحدث فيها ليس مجرد تغيرات في البناء الدستوري والقانوني وهياكل نظام الحكم -كما يلفت التقرير- ولكنه يتجاوز ذلك إلى مفهوم الحكم ذاته وغاياته ومصدر شرعيته. ليؤكد انتهاء فلسفة دولة الوصاية واحتكار فاعل واحد أو قوة واحدة السيطرة على مقاليد الأمور وبدء الانتقال إلى دولة الموطنة والقانون. كما يغير إدراك المواطنين للعلاقة بين المجتمع والدولة ولمفهوم العدل والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ينبغى أن يتمتع بها كل مواطن وهو ما يستغرق بالضرورة سنوات عدة. وبالتالي فإن الأزمات والاختناقات التي تشهده هذه الأقطار هي - على الرغم مما يبدو من تجلياتها الشديدة الوطأ – مظاهر وعلامات للتحول من تنظيم اجتماعي وسياسي تسلطي إلى آخر ديمقراطي وهو المأمول والذي تترقبه الشعوب التي لم تلمس مردودا إيجابيا واضح المعالم على حياتها منذ انبثاق ثورات الربيع العربي. الأمر الذي يستوجب على النخب السياسية الجديدة أن تدركه. وتسعى جاهدة إلى تغيير أطر وأساليب التعامل مع معضلات الحياة اليومية. التي يكابدها المواطنون حتى يشعروا أنها – أي الثورات - انحازت إليهم ليس بالشعارات فقط وإنما بالخطط والإجراءات والأفعال على الأرض.