16 سبتمبر 2025

تسجيل

الربيع العربي وسيرة الإمام علي

01 أغسطس 2012

أتيح لي بفضل الله خلال هذه الأيام الرمضانية العودة لما ألفت من كتب التفسير والسيرة والحديث لأقرأ صفحات منها ولكن بعيون مختلفة لأني أعيد مطالعتها هذه الأيام على ضوء أحداث جليلة كأنها البأساء والضراء والزلزال التي ذكرها الله تعالى في الآية 214 من سورة البقرة حين وعد المؤمنين بالنصر القريب وحين ضرب سبحانه مثل الذين خلوا من قبل الرسول والذين آمنوا معه فلم ييأسوا وصبروا وصابروا حتى جاء نصر الله وهو قريب. أقرأ اليوم كتابين لكاتبين من أصدق من أرخ لسيرة الإمام علي كرم الله وجهه وهما طه حسين وعباس محمود العقاد مضافا إليهما محمد عابد الجابري الذي ربط بين السيرة والعصر وإليهما أضفت كتاب الفتنة الكبرى للصديق المفكر هشام جعيط. فهداني الله إلى جملة من الحكم الخالدة التي ربما في زحمة التجاذبات وتراكم المحن الراهنة نسيناها وتعامل حكام سورية الثائرة ونخب الظرف المؤقت لدينا بعد تحولات دولهم في تونس ومصر وليبيا واليمن معها تعامل التسرع والقرار المتعثر وردة الفعل مؤثرين فتنة اللحظة المؤدية للخطأ على رصانة الموقف المؤدي للوفاق مع ثقتي فيهم ومودتي لهم لأني سبق أن عرفت العديد من التوانسة والمصريين والليبيين واليمنيين في محطات العمر. ولم أستبعد شيئا من التشاؤم حين تعود أمامي ظلال الصدام المأساوي القديم بين خلافة علي بن أبي طالب الساعي لاستعادة سيرة أسلافه الكرام أبي بكر وعمر وعثمان وملك معاوية بن أبي سفيان الساعي لتثبيت الدولة بالقوة والغلبة باتباع سنن كساورة الفرس وقياصرة الروم. وحين تعاد مناورات الفريقين بتحكيم رجلين هما عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري حتى يفيء الناس إلى أمر الله وتنتهي الحرب بين العراق والشام أي بين الخليفة والملك وكما زعم بعض الفقهاء بين الورع والدهاء وهو مما يزال يقسم المسلمين إلى يوم الناس هذا وأورثهم عناء وخلافا لم ينقضيا بعد وما أرى أنهما سينقضيان قبل زمن يطول أو يقصر(كما قال طه حسين). واليوم حين نقرأ خلفيات ذلك الزمن الرهيب بما فيه موقعة الجمل وحرب صفين والنهروان ثم ما كان من استشهاد الإمام وبنيه الحسن والحسين بعد اغتيال الخليفة عثمان فإنما نخشى أن تكون لبعض ثورات الربيع مصائر الفتنة لا قدر الله إذا ما صمت النخب المتقدمة اليوم أذانها عن حكمة الإمام ومنها ما قاله رضي الله عنه في إسناد المسؤوليات حين نهى عن بطانة السوء ناصحا لواليه محمد بن أبي بكر قائلا له: " لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ولا جبانا يضعفك عن الحزم ولا حريصا يزين لك الشره بالجور إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرا ومن شاركهم في الآثام فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل أرائهم ونفاذهم وليس لهم مثل أوزارهم". ولعل بعض وصايا الإمام تنفع اليوم الماسكين بالسلطة حين يغريهم الحكم بتتبع ما يعتبرونه معايب من سبقهم وينسون أن تاريخ الوطن ليس خطا مستقيما من الحقيقة المطلقة بل هو تقلب من حال إلى حال وأن من سبقوهم في المناصب اجتهدوا ولا يؤخذ منهم بجريرة إلا من أكل أموال الناس ومس من حياتهم وأعراضهم وأفسد في الأرض. يقول الإمام في وصية لولاته: " ليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فإن في الناس عيوبا أحق للوالي سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك". ثم إن من حكمة عهد الإمام إسرافه في محاسبة ولاته إلى أن كتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري يلومه في ولائم دعي لها قائلا له: " أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو..". إن أوجه الشبه بين عصرنا الراهن وعصر التمهيد للفتنة يكمن في وقوفنا اليوم ووقوف مسلمي سنة خمسين من الهجرة أمام مفترق طرق في عاصفة رملية لا نتبين فيها سبل الضلال من سبل الهدى ولا مسالك الحق من مسالك الباطل فكما وقف أجدادنا من السلف الصالح بين طريق الخلافة النبوية وطريق الملك الدنيوي مع إغراء المصالح الزائلة وتربص الأعداء بهم نجد أنفسنا بعد خمسة عشر قرن اليوم نقف بين مسالك وعرة من الحكم الطائفي أو الفئوي أو الحزبي أو الطبقي حتى لو لبس لبوس الجمهورية وبين خيار الحق والعدل والوفاق ولم الشمل في تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء وقريبا جدا في دمشق. ولينظر العرب في حكمة الإمام حين قال: إن الدنيا إذا أدبرت عنك فإنها تسلبك محاسن نفسك وإذا أقبلت عليك فإنها تعيرك محاسن غيرك. وتظل الحكمة الأكثر نفعا من كتاب (نهج البلاغة) لحكام اليوم هي: ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار.!