16 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); وكأننا أمام مشهد سريالي تتبخر فيه أحلام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على نيران التحولات في المشهد الإقليمي ومتطلبات الواقعية السياسية، وكأننا أمام فصل من فصول "رئيس الضرورة" تقدم التنازلات تباعا في سياق لعبة البقاء السياسي، فالتحولات في الموقف التركي تعبر عن انتصار منطق الدولة في هذه اللحظة على أحلام "السلطان" للخروج من العزلة التي انتجتها سياسات الرئيس التركي. في الثاني والعشرين من يونيو أعلن بن علي يلديريم – رئيس الوزراء الذي جاء بعد أحمد داود أغلو – بأن بلاده ستعمل على توسيع التعاون مع إيران التي تقف في الخندق المضاد في الأزمة السورية. ولم يمض سوى أسبوع على ذلك حتى قامت الحكومة التركية في التاسع والعشرين من يونيو في التوقيع على اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد ست سنوات من القطيعة والجمود السياسي، وأي قراءة لمضمون الاتفاق تعكس تماما حجم التنازلات التي قدمتها الدولة التركية لإسرائيل. وفي السابع والعشرين من يونيو ايضا يعلن الرئيس التركي عن أسفه لإسقاط الطائرة الروسية ويقدم اعتذارا خطيا ورسميا للرئيس بوتين، وفي ذلك تراجع كبير عن موقف السابق بأن بلاده لن تعتذر عن الدفاع عن سيادتها! فروسيا كانت تصر طيلة المدة الماضية على الاعتذار التركي وعلى محاكمة من قتل الطيار الأمر الذي قبلته تركيا. لا يمكن لأحد أن يلقي اللوم على الرئيس التركي على هذا التحول بعد أن وصلت سياسة تركيا إلى طريق مسدود، فلم يعد للتهديد والوعيد أي معنى فكانت الاستدارة التركية أو وفقا لتعبر رئيس وزراء تركيا الجديد "أعداء أقل واصدقاء أكثر" وكأنه بذلك يعقلن الاستدارة التركية. وحتى نكون منصفين، ما كان بإمكان تركيا أن تواصل ذات السياسة الإقليمية التي بدأت تتهاوى على وقع التدخلات الروسية وخذلان الولايات المتحدة لحلفائها في الإقليم وعلى رأسهم تركيا. فالمشروع التركي في الجنوب اصطدم بموقف أمريكا في تحديد أولويات وترتيب مصادر التهديد، الأمر الذي ترك تركيا من دون حليف وبخاصة بعد أن انتصرت الثورة المضادة في بلاد الربيع العربي على حساب الإخوان المسلمين الذين تراجعوا كثيرا في كل بلد وتحديدا في مصر. ونظرا لهذا الإدراك المتأخر بعض الشيء أقدم الرئيس التركي على خطوتين ما كان لأحد أن يتخيلهما نظرا لشخصية أردوغان والبنية الذهنية العنيدة التي تعلي من شأن الذات والبلد التي يرأسها. غير أن حسابات الواقعية السياسية وتدهور الوضع الأمني الداخلي في تركيا والاخفاقات في السياسة الخارجية والرغبة في البقاء السياسي كلها أمور دفعت رجب طيب اردوغان إلى تجرع كأس مرير بالاستدارة نحو تل أبيب وموسكو. هذا لا يعني بأن الرئيس أردوغان سيغير من مواقفه تجاه الأزمة السورية، لكنه أدرك أخيرا بأن هناك ضرورة للتعامل بالقطعة وفصل الملفات (compartmentalization) بشكل يخفف من الضغوطات الخارجية، بمعنى أخر كل ما قام به الرئيس هو إعادة موضعة تركيا وفقا لتطور الأحداث وبخاصة مع تراجع فرص تحقيق رهانات أردوغان الإقليمية. خصوم تركيا في الإقليم هللوا بأن الخطوتين اللتين قام بهما اردوغان تعبران عن اعتراف بهزيمة أمام مشروع "المقاومة والممانعة" الذي يقود الأسد وإيران مدعومين من روسيا، وبالفعل حاول اليسار العربي تصوير الأمر وكأنه إعلان عن هزيمة! غير أن الواقع يشير إلى أن إعادة التموضع تعبر عن مرونة فائقة ستمكن أردوغان من تحسين العلاقات مع روسيا وإيران وإسرائيل من دون الاتفاق مع أي من هذه الدول فيما يتعلق بكيفية حل الملفات الإقليمية العالقة. في إيران، تهتم تركيا فقط في التعاون الاقتصادي الذي تستفيد منه البلدان ولا أرى بأن ذلك سيفضي إلى انقلاب في مواقف تركيا حيال الملفات التي تختلف فيها جملة وتفصيلا مع قادة إيران. وفي هذا السياق نستبعد أن تعيد تركيا علاقاتها الحميمة مع النظام المصري لأن العداء بين أردوغان والسيسي يكاد يكون شخصيا. باختصار، فشلت تركيا بامتياز في سياستها الخارجية، فعلاقاتها متوترة حتى مع حلفائها في النيتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ولم تتمكن من تحقيق أهدافها الإقليمية في سوريا، وبالعكس وصلت علاقاتها إلى حد العداء مع روسيا وإيران ناهيك عن مصر. ومن هنا نفهم تراجع تركيا وانتهاجها مقاربة "أعداء أقل واصدقاء أكثر". لكن ربما ستسير المصالحة مع إسرائيل على ما يرام في حين أن العلاقات مع روسيا وإيران ستسير بسرعة الحلزون نظرا للخلاف العميق في الموقف من سوريا. بمعنى إن الاستدارة التركية هي مجرد إعادة تموضع لتحسين موقف تركيا وتخفيف الضغط عليها في ظل إخفاق السياسة الخارجية وتدهور الوضع الأمني في الداخل التركي.