11 سبتمبر 2025

تسجيل

ربيع قطري ناعم

01 يوليو 2013

ربما لم تفاجئني خطوة سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بتسليم السلطة إلى سمو الشيخ تميم، فشخص مثلي تابع سموه على مدى أكثر من 15 عاما صحفيا، سواء في الزميلة الراية أو كمراسل للأهرام، بوسعه أن يتوقع مثل هذه الخطوة وإن كنت لم أتوقع التوقيت الذي تمت فيه وتلك هي المفاجأة، فقد كان دوما مسكونا بهواجس التغيير والانحياز لحراك الشعوب وهو ما لمسته مبكرا فيه ورسخ لديّ يقينا بتمكن هذه الهواجس منه خلال جلسة امتدت ساعة معه بحضور إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة وتحرير الأهرام الأسبق ضمن موعد أسهمت في تحديده عبر الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني عندما كان مسؤولا عن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون والذي يتمتع بحس إعلامي رفيع وتحديدا في العام 2003، ففي هذه الجلسة ومعظم الحديث فيها لم يكن للنشر -وهو ما احترمه نافع – أعطى سمو الشيخ حمد الأهمية القصوى للشعوب للتغيير وضرورة تجاوب الحكام مع مطالبها، بدا لي آنذاك زعيما للمعارضة وليس حاكما عربيا نمطيا لا يهمه سوى الإبقاء على الوضع القائم. وما جرى في زمن حكمه جسَّدَ هذه القناعات، فقد صاغ الشيخ حمد روحا جديدة نقلت الوطن إلى حالة الدولة الحديثة المتصالحة مع العصر من حالة القرية التي وصفتها للصديق الكاتب المتوهج أحمد علي عندما كان رئيسا لتحرير الراية وأرسلني في أول مهمة خارجية لي عقب مجيئي للدوحة ببضعة أشهر إلى إمارة دبي، فجئت مصابا بالدهشة من حجم تطورها وسألني عن قطر، قلت له على الفور إنها قرية خليجية، كان ذلك إن لم تخني الذاكرة في مارس 1989. لقد عشت في قطر قبل تولي الشيخ حمد الحكم حوالي 7 سنوات، وكنت شاهدا على مدى الهزال الحضاري والتنموي الذي تشهده البلاد، غير أنه فجَّرَ طاقة القطريين لصناعة مسار مغاير تماما عقب السابع والعشرين من يونيو 1995 وهو ما كنت أرقبه وألمسه وأرصده صحفيا ومواطنا عربيا، الأمر الذي دفع قطر إلى صدارة المشهد الإقليمي بمعاونة من فريق عمل مخلص، في مقدمته الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني وعبد الله بن حمد العطية ونفر آخرين لعبوا دورا مهما في تطبيق رؤية حمد لصناعة وطن جديد قادر على أن يكون رقما مهما في معادلة الإقليم. ولست في وارد رصد تفصيلي لقسمات التغيير التي شهدتها قطر في زمن حمد، لكني أقول إنها حصيلة قيادة أدركت قيمة الحرية بكل أبعادها والانحياز لخيارات الشعوب وعندما تيقن أن المرحلة في حاجة إلى تدفق دماء جديدة بادر بالتخلي عن السلطة في أوج توهجه ونجاحاته وبالطبع ثمة تفسيرات عديدة قدمها الكثيرون لهذه الخطوة التي وصفها الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة العربية بحق بالشجاعة وغير المسبوقة، بعضها اتسم بقراءة خارجة عن السياق التاريخي والفهم الحقيقي لجوهر مشروعه التحديثي، لكني على قناعة بأن الرجل أراد أن يكون متسقا مع فكره ورؤيته التي تنزع دوما إلى القفز على ما هو قائم مادام في الأمر تحقيق مصلحة للوطن، فضلا عن أنه ظل على مدى العامين والنصف المنصرمين يساند حراك شعوب عربية أضناها الاستبداد والبقاء في السلطة طويلا، فقرر أن يكون هو جزءا من هذا الحراك وصانعا لأنموذج لتداول السلطة في دولة يحكمها نظام وراثي شرعي بما يقود إلى صياغة مرحلة جديدة في الوطن الناهض ويخلخل في الآن ذاته البنية السياسية التي يمكن أن يسودها ركود وترهل من طول بقاء في الحكم. ولا يعني ذلك سوى انبثاق ربيع قطري يمكن وصفه بالناعم أو غير العاصف على حد قول دبلوماسي عربي بالدوحة وأهمية هذا الربيع تكمن في المحددات التالية: أولا: إبداع صيغة لتداول السلطة مع الإبقاء على جوهر النظام السياسي الذي يتسق مع طبيعة البلاد، مما يسهم في إحداث تغيير وفقا لمنهجية الإصلاح التي تتسق مع تركيبة الشعب القطري وليس منهجية الثورة التي ربما لا تنطوي على جدوى حقيقية إن لم تحمل أضرارا. ثانيا: إتاحة الفرصة للجيل الجديد لتولي مسؤولية الحكم عوضا عن البقاء في حالة الترقب والانتظار طويلا وهو ما ينعكس سلبا على الحراك السياسي بل والحضاري للبلاد إن لم تتح هذه الفرصة، ولعل الشيخ حمد يفتح عبر تسليمه السلطة لسمو الشيخ تميم أبواب الأمل في كثير من دول الإقليم التي تترقب الأجيال الجديدة فرصتها للصعود إلى مواقع الحكم وتطبيق مشروعاتها للتحديث. ثالثا: بناء صيغة لاحترام من أعطوا الوطن على مدى السنوات المنصرمة بحيث لا يكون ابتعادهم عن مواقع السلطة نهاية لأدوارهم، بل منحهم أدوارا أخرى تنسجم مع ما تراكم لديهم من خبرات لمصلحة الوطن وذلك يكرس لقيمة الوفاء التي تكاد تنعدم مع صعود أي سلطة جديدة وهو ما فعله الشيخ تميم على الفور عندما أصدر مرسوما بمسمى سمو الأمير الوالد، فضلا عن أدوار منتظرة للشيخ حمد بن جاسم صاحب البصمة القوية في السياسة الخارجية، فضلا عن الداخلية بعد توليه رئاسة مجلس الوزراء. رابعا: إن الجيل الجديد الذي يتولى السلطة الآن في قطر بقيادة سمو الشيخ تميم مهيأ بحكم ما تشبع به من رؤى وتصورات وأفكار خلال زمن حمد، سيكون قادرا على مواصلة مسيرة مشروع النهوض بوتيرة أسرع وإن كان الأمر سيتطلب بالتأكيد آليات ووسائل مختلفة بحكم طبيعة الأمور ومنطق المتغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم والأفق مفتوح على اتساعه أمام هذا الجيل الذي ارتوى من قيم ومبادئ ومرتكزات وثوابت وطنية وقومية وإسلامية زخرت بها سنوات الأمير الوالد وسيكون قادرا على صياغتها مجددا بما يتسق مع روح العصر وطريقة التفكير الجديدة التي تسود نظم الحكم الآن خاصة في ظل ارتفاع منسوب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. خامسا: إن قطر ستواصل حيويتها الإقليمية وإن بمعدلات أقل اندفاعا من السنوات السابقة وذلك يتوافق مع طبيعة المرحلة الجديدة التي ستعطي الأولوية لمشروع التحديث في الداخل بمساحات أكثر اتساعا وفي الوقت نفسه لن تتخلى عن توجهات إيجابية في الخارج انحازت لخيارات شعوب تتطلع إلى الحرية ودول تتوق للاستقرار بعد أن عجزت نخبها عن إنجاز فعل التصالح والتخلي عن الاستبداد.