12 سبتمبر 2025
تسجيليكابد النظام الإقليمي العربي في المرحلة الراهنة حالة غير مسبوقة من الانكشاف، أو الخلل الإستراتيجي في بنيته الأساسية على نحو بات لا يهدد مفرداته المتمثلة في الدولة الوطنية فحسب، وإنما وجوده على المستوى القومي وذلك في ضوء جملة من العوامل الرئيسية والتي يمكن إجمالها فيما يلي:أولا: لم تفض ثورات الربيع العربي التي اندلعت في مطلع العام 2011 في غير دولة عربية. إلى قدر من الاستقرار النسبي الناتج عن إعادة بناء مؤسسات الدولة وتغيير هياكلها الرئيسية، بما يسهم في تغيير معادلة السلطة والثروة وبناء أنساق اجتماعية مقبولة شعبيا على نحو يتوافق مع الأهداف التي تبنتها هذه الثورات، باستثناء تونس ومصر، وإن كانت الدولتان، مازالتا تعانيان من بعض الأحوال الأمنية المضطربة خاصة في الأخيرة التي تواجه حربا من جماعات مسلحة مدعومة من تيارات تنتمي إلى الإسلام السياسي، ولم يتوقف الأمر عند حد الاضطراب الأمني، وإنما امتد إلى وقوع حروب أهلية وصراعات مذهبية وطائفية وعرقية، تكاد تنهى حالة التعايش التي كانت قائمة في هذه الدول بين مكوناتها، ووفقا لبعض رؤى الخبراء الإستراتيجيين فإن ما جرى في هذا السياق يعكس نوعا من تأثير النظام العالمي بقواه الفاعلة، والتي أدت عبر عقود طويلة إلى لعب دور واضح في تشكيل اتجاهات النظام الإقليمي العربي وتوجهاته، من خلال الاختراق السياسي لنظم الحكم وهيئات المجتمع المدني والتحكم في رؤاها وأولوياتها وفي إدراكها لمصالح التهديد والخطر، ومن ثم يمكن القول - تبعا لذلك - أن جوهر أزمة النظام الإقليمي العربي، تتمثل في أنه لم يكن إقليميا وعربيا كاملا، بل كانت التأثيرات والمصالح العالمية جزءا محوريا منه وهو ما أفرز، بشكل أو بآخر، اختلالا في بنيته الإستراتيجية لصالح النظام العالمي.ثانيا: نشوء وتنامي وتصاعد أدوار وتأثيرات التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية وعلى رأسها تنظيم "داعش"، والذي بلغ به التحدي مستوى الإعلان عن نفسه، كدولة أطلق عليها مسمى الخلافة الإسلامية في يونيو من العام الماضي عقب سيطرته على مساحات شاسعة من كل من العراق التي يسيطر على ثلث أراضيه فعليا في حين يسيطر على أكثر من نصف الأراضي السورية بعد أن تمكن مؤخرا من ضم مدينة تدمر الأثرية إلى قائمة المدن والمناطق الخاضعة له وتكمن خطورة تمدد التنظيمات الإرهابية في أنها تختفي بين أبناء البلد الواحد وتفاجئهم بأعمالها وتقوم بإعاقة تقدمهم وتدمر منشآتهم وتستنزف قدراتهم وتدمر ثرواتهم بل وتشغل جيوشهم وقواتهم المسلحة عن أداء واجبها الدفاعي ضد الأخطار الخارجية ولم تكتف هذه التنظيمات بالسيطرة على جزء من المجال العام المادي للدولة المتمثل في الأرض وإنما سعت إلى المنافسة على المجال العام السياسي والمعنوي فطرحت شرعية منافسة تستند إلى أساس ديني مما أدى إلى تهديد مباشر لاستمرار كيان الدولة وإمكانية تحللها وانقسامها وفي دول أخرى كمصر تمركزت ميليشيات هذه التنظيمات في منطقة جغرافية حدودية ومارست مختلف أشكال العنف والإرهاب ضد رموز ومؤسسات الدولة والمجتمع مما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى وصف الموقف بأنه حالة حرب فرضت اتخاذ إجراءات استثنائية كإعلان حالة الطوارئ في تلك المنطقة وإخلاء خط الحدود من القاطنين فيه وإنشاء منطقة عازلة.ورغم تشكيل تحالف دولي لمحاربة هذا التنظيم فإنه عجز حتى الآن عن كبح جماعه مشروعه التمددي في المنطقة بل هو يحقق ما يمكن وصفه تحولات تكتيكية لصالحه مثلما حدث مؤخرا في كل من العراق وسوريا فضلا عن تمدده في كل من لبنان وليبيا وهو أمر ينطوي على تهديد واضح للنظام الإقليمي العربي. ثالثا: تعرض النظام الإقليمي العربي خلال العقدين الأخيرين خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003 إلى تغيرات كبيرة سياسياً وعسكرياً، رافقتها مشاريع وترتيبات جديدة حاولت الولايات المتحدة إدخالها إلى المنطقة من أجل تطويعها لإستراتيجيتها القائمة على الهيمنة والنفوذ والتي كان لها آثار خطيرة انعكست بصورة مباشرة على التوازن الإستراتيجي في المنطقة باتجاه تقليص مقدراتها وقوتها لصالح أطراف إقليمية لها مطامعها ومشروعاتها للتمدد في المنطقة العربية فضلا عن الرغبة في الاستحواذ عليها وفرض توجهاتها على شعوبها واللافت أن القوى الخارجية التي أتاحت لدول عربية في الماضي فرصة الاستعانة بقوى أجنبية لمواجهة ما تتعرض له من تهديدات الأطراف الإقليمية باتت تتضاءل بشدة نتيجة لعزوف الولايات المتحدة ومن ورائها الدول الغربية عن الاشتراك بقوات خارج أراضيها وبخاصة قواتها البرية التي لا غنى عنها لكسب أي معركة وفق تأكيدات الخبراء الإستراتيجيين ويتزامن مع ذلك تنامي علاقات القوى الغربية ببعض مصادر التهديد الإقليمي وبخاصة إسرائيل وإيران وتركيا واتجاهها إلى المزيد من التعاون معها على نحو أخل كثيرا بالتوازن الإستراتيجي فيما بين النظام الإقليمي العربي من جهة وهذه المصادر من جهة أخرى.وعلى الرغم مما يبدو من عتمة ملامح مشاهد الاختلال الإستراتيجي في النظام الإقليمي العربي فإن ثمة حراكا ملحوظا باتجاه القفز عليه وبناء أنساق جديدة في هيكليته السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية من أجل تجاوز جوانب هذا الاختلال ولعل في مقدمة هذا الحراك السعي العربي الحثيث إلى بناء قوة عربية مشتركة, ولاشك أن إنجاز هذه القوة سيكون المدخل الرئيسي لتجاوز حالة الاختلال الإستراتيجي الراهنة على نحو سيمكن أطراف النظام الإقليمي العربي من مواجهة التهديدات القائمة سواء داخليا أو خارجيا وإيجاد قاعدة قوية للشعوب العربية تمكنها من التعامل مع القوى الأخرى بما فيها مصادر التهديد المحتملة على أساس من الندية والمصالح المتبادلة ويساعد على ضمان الأمن القومي العربي بيد أن ذلك يستوجب حتى تتسم هذه الخطوة بعناصر الفعالية والاستمرارية تجاوز حالة الشك القائمة بين العديد من وحدات النظام الإقليمي العربي التي تصل إلى حد العداء وتبادل الحملات الإعلامية والسياسية التي بوسعها أن تقوض أي جهود للتكامل والتعاضد القومي المطلوب في هذه المرحلة والسعي إلى وحدة القرار العربي المستقل وهو أمر بات ملحوظا في الآونة الأخيرة وتجلى في تشكيل التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن في نهاية مارس الماضي ولاشك أن تجاوز حالة الاختلال الإستراتيجي لا ينهض فقط على مجرد إنشاء قوة عسكرية مشتركة بل يستوجب الأمر التفكير في بنيان شامل لمعالجة ومواجهة التهديدات والمخاطر التي شكلت البيئة الحاضنة لهذا الاختلال ضمن مشروع عربي متكامل يجب أن يقوم على أسس اجتماعية وسياسية واقتصادية معقولة تمتد عناصرها إلى إعادة البنى الديمقراطية وإقامة ما يطلق عليه في الفكر السياسي بالحكم الرشيد وصياغة أنساق من العدالة الاجتماعية وتكريس مبدأ المواطنة عوضا عن النزوع الطائفي والعرقي والمذهبي السائد في بعض الأقطار العربية وتجنب التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعوب العربية.