14 سبتمبر 2025
تسجيلما إن انتهيت من صحبة رواية الأديبة الفلسطينية مي جليلي «قبضة غبار» حتى أدركت أنني - برغم معرفتي بروحها المرحة ونتفة السخرية اللاذعة التي نفتقدها في قلم امرأة أديبة - لم أكن لأعرفها كثيراً، فهناك في السراديب الخفية يقبع نزف كنزف الأقبية السرّية.. حالة خاصة جداً تسميها إيزابيل الليندي «رحلة الى أشدّ كهوف العتمة يقظة». إنه الإبداع والرؤية البعيدة، حيث لا تحسّ وأنت قاريء كيف وصلت، أمّا وأنت مبدع فإنك تضطر الى العودة حتى تتملى استيفاء هذا الانتقال ودهشته. وهذا لا يجيده سوى قلم غير ملوث. لا أتصور من هو أقدر على وصف الوضع الفلسطيني وتأريخه أدبياً أكثر من قلم عايشه ولم يتخيله أو يختلقه. في طفولة المخيمات البائسة تقول الكاتبة: «نحن لا نعرف أن في البيوت هناك أشياء اسمها تُحف وأن للعصافير أقفاصاً عصافيرنا نصيدها بالفخة من براري المخيم نلاعبها قليلاً ولمّا نملها نشويها حيّة». تنتقل بنا الكاتبة الى شواء آخر بنقلة رشيقة.. وحتماً تصدقونني إذا ما قلت أنه ليس ثمة أرقى من مشاعر الحب عندما تؤرخ الأحداث والفجائع. تقول بطلة الرواية: «أنا تلميذتك أيها المقاتل الفذّ، أتمايل بشرائط الدلال على ساعدك وأنت رجلي الذي أعطى لكل السنوات الماضية وهجاً وقضية.. تأتيني مجلجلاً نزقاً لأخطاء الرجال تخرج هادراً تخفض رأسك عملاقاً يمتشق عشرين عاماً ودأباً لا يذبل من أجل حب ووطن هكذا يفعل المردة والبسطاء وأصحاب الحق ومن غادروا بالقوة». خرج هؤلاء القادة على متن سفينة من بيروت الى صحراء السودان ووديانها بتسوية تعادل مثقال ذرّة وهنا تتجلى نبوءة الأدب ورؤياه البعيدة التي تُلملم شتات الخيوط في أوسلو وما بعدها.. وتُضيف البطلة: «لمحتك منكساً كعلم أُبيد اخضراره، تلوّح لي من برج السفينة وتقسم أنك أحببتني ولكنك لا تستطيع المُضي بي». لعلنا نغفر للكاتبة مبالغة الحب عندما نعلم من أين أتت بكل هذا الأعرج الذي اختصر الوطن: «لا فرق يا مصطفى بين ضياع حب وضياع وطن، فالوطن لا تهدأ سرائره حتى ندخل سراديب رحمته».