11 سبتمبر 2025

تسجيل

السباق نحو الهاوية.. عندما تعشق الفريسة قاتلها!

01 مايو 2024

أشرت سابقا إلى القصة المتداولة في تراثنا وأدبنا العربي عن القرية التي اجتاحها المغول فاغتصبوا كل نسائها إلا واحدة قاومتهم فما كان من المغتصبات، بعد خروج الغزاة، إلا أن قتلوا العفيفة الوحيدة بينهن. وفي الأدب الانجليزي، يقول شكسبير في الفصل الرابع، المشهد الثاني، ج2 من مسرحيته «هنري السادس» على لسان أحد أشرار الرواية الذين يحاولون إسقاط الملك، «دعونا أولا نقتل كل المحامين» بمعنى اقتلوا كل الذين يستطيعون كشف الحقيقة ومناصرة الحق وإقامة العدل. وهكذا حياة البشر، صراع لا ينتهي بين الخير والشر، لكن بعض الناس تخصصوا في الشر واحترفوه وباتت مهنتهم التي يجنون من خلالها الثروات ويسيطرون بها على السلطة والحكومات. وقد كانت هذه عقيدة أحفاد ابن سبأ على الدوام، منذ أن احتكروا توكيل الشر في العالم: «اقتلوا كل الطيبين.. اقتلوا كل الشرفاء وأشعلوا الثورات في وجه الصالحين». بل إن هذا مكتوب في أكثر مخطوطاتهم قداسة واتباعا وتطبيقا. وهذا بالضبط ما فعلوه قديما وحديثا. ومن هنا نستكمل قصة هدم الخلافة وإشعال النيران حول السلطان عبدالحميد، آخر خليفة حقيقي للمسلمين. ولأن هذا ليس سردا تاريخيا فلن ندخل كثيرا في التفاصيل الدقيقة ليوميات سقوط الخلافة، لكن سنواصل قراءة معاني الأحداث وما بين السطور. وقد كنا توقفنا عند تسخير «أعداء الإنسانية» الصحفَ والكُتّابَ لتخريب عقول الجماهير وتأليبهم على سلاطينهم وخاصة في المائة سنة الأخيرة من عمر السلطنة ثم تحريض النُخب والجيش على السلطان عبدالحميد. يلاحظ هنا أن السلطان كان يفهم مكائد هؤلاء، كونه كان انضم لجمعية العثمانيين الجدد مطلع شبابه - وفق مصادر تاريخية وثقها الكاتب التركي آيدِن بَيْرام، وترجمها الباحث محمد شعبان أيوب- ولمس بنفسه أن تلك الجماعة، يحركها الإنجليز ومن وراءهم، كانوا يريدون إلغاء الدين الإسلامي بالكلية من حياة الإمبراطورية، من خلال الدعوة الشيطانية لفصل الدين عن الدولة، وهو الأمر الذي نجحوا فيه في أوروبا قبل ذلك. لكن في الفترة التي استلم فيها عبد الحميد الحكم كانت خيوط المؤامرة قد وصلت إلى مرحلة الاكتمال شبه التام فلم تُجدِ محاولاته نفعا لوقفها. وقد اعتمد هؤلاء على إثارة تمرد الضباط، واحتضنوهم في محافلهم الماسونية في سالونيك، بعيدا عن قبضة السلطان (كتاب السلطان عبدالحميد لمحمد علي أورخان ص 212). وتحكي المصادر كيف استضافت محافل سالونيك لقاءات المتمردين في بداياتها حتى تم لهم الأمر وتوجهوا بتمردهم إلى اسطنبول لخلع السلطان. بل إن إمانويل كاراسو اليهودي الذي سلم السلطان قرار عزله كان يدير محفلا ماسونيا في سالونيك، وكان الضباط المتمردون مثل مصطفى كمال وطلعت وأنور وجمال (السفاح) يلتقون فيه. («سلام ما بعده سلام» 38-54، والأفعي اليهودية، ص 75- 102). وربما لا يعلم كثيرون أن جمال باشا السفاح ذاك هو من قاد الانقلاب على السلطان وهو الذي ارتكب جرائم بشعة بحق شعوب كثيرة منها الأرمن والسوريين لكنها نسبت زورا إلى الدولة العثمانية، إمعانا في تشويهها، مع أنه كان ينفذ تلك الجرائم باسم الماسونية واليهود والإنجليز. لقد انقض المتآمرون على رأس وقلب الخلافة فحرضوا الشباب، وخاصة أبناء الطبقات الراقية، وأغروهم بمعسول الكلام المبطن بالسم عن ضرورة التحديث وفوائده وأهميته، وحتمية تقليد الغرب من أجل النهوض، وهو ما سيستمر شعارا كاذبا لكنه جاذب حتى يومنا هذا لكثير من الشباب الحالم بحياة أفضل. ومثلما حدث في أوروبا إذ هُدم الدين رسميا بهدم سلطة الكنيسة، نجح أعداء الإنسانية في إلغاء الإسلام على المستوى الرسمي بهدم الخلافة وتنصيب نظام أتاتورك الذي لم يكتف بالهدم بل ناصب الإسلام العداء. ومثلما حدث في أوروبا أيضا، كانت المهمة الأصعب هدم الدين في نفوس الرعية، فعملوا على مواصلة إرجافهم وتضليلهم للناس عبر وكلائهم، في أشلاء الإمبراطورية، الذين نصّبُوهم وصنعوهم على أعينهم، فأمعنوا في تطبيق سياسة «فرق تسد»، وأعملوا مقص «القومية» في جسد الأمة، فتقطعت الدولة الإسلامية الواحدة أشلاء وعرقيات وأوطانا (سايكس بيكو)، لا تفرق بينها الحدود المصطنعة فقط ولكن الحزازيات الطائفية والدينية والمذهبية، التي كان يغذيها ويؤجج نيرانها شيطان الاستخراب العالمي. وهذا ما لم يفعله الفتح الإسلامي في أي أرض دخلها (وفي هذا حديث لاحق). وكما كان خنجر القومية هو الذي وجه الطعنة القاتلة للإمبراطورية ومزقها إربا، سيتم توجيه نفس الخنجر نحو بقية شعوب الخلافة يمزقها ويفرق بينها ويضع بينها الحدود تلو الحدود، (تفتيت المفتت)، حتى توقف العقل الجمعي عن التفكير بل عن الحياة وباتت أمة الإسلام أحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، لا بل، ويتعايرون ويتطاحنون. على أن ما يدهش حقا في هذه المسيرة الطويلة من صراع الخير والشر هو أن يتحول الوضع بين أجزاء ما كان سابقا خلافة وأمة واحدة من تعاضد وتلاحم إلى شقاق وتخاصم ثم من سباق لتحقيق الهوية الذاتية الضيقة إلى سباق نحو الهاوية بعشق العدو والانضواء تحت كنفه (التطبيع)، في دورة عكسية شبه كاملة لحركة التاريخ، فيما بات يعرف نفسيا في العصور الأخيرة بمتلازمة ستوكهولم. يعيدنا هذا مرة أخرى إلى سؤال «كيف تشكل عقلنا الحديث؟». ونجيب بأن القصة لم تكن في أي من مراحلها مجرد عملية هدم لسلطة سياسية ولا إسقاط ملك أو خليفة بعينه، بل كانت مسيرة متواصلة «مستمرة» لمحو الدين من حياة الناس وإلغائه من مفرداتهم ومسحه من نفوسهم وعقولهم في إطار «صناعة الكفر». ولما كان إسقاط الحكومات واغتيال الأنبياء والملوك والمصلحين واحتكار المال والثروات وسائل في سبيل تحقيق ذلك فقد فعلوا كل ذلك، وما خفي أعظم.