16 سبتمبر 2025

تسجيل

هل نقرأ لنستوعب أم لنتسلى؟

01 مايو 2014

كنت قد تحدثت من قبل عن الرسائل التي يكتبها الأدباء والفنانون والمفكرون لأصدقائهم أو لحبيباتهم وملهماتم، وهي رسائل مشوقة وجميلة، ويمكن أن نسميها فنا أدبيا قائما بذاته، لكني أشرت إلى أن هذا الفن الأدبي يوشك على الانقراض، ربما بسبب طبيعة العصر الذي نحيا في أجوائه، وربما نتيجة لأسباب أخرى متنوعة ومختلفة، وأود الآن أن أشير إلى نقطة لا تتعلق بالأدباء، بقدر ما تتعلق بالقراء أنفسهم. ليست هناك قاعدة واحدة محددة في طريقة قراءة القراء لما يريدون أن يطالعوه، فهناك قراء يحبون أن يستوعبوا ويتأملوا، وهؤلاء لابد أن يتحلوا بالصبر والقدرة على المثابرة، وهناك قراء يجدون في القراءة وسيلة من وسائل التسلية، وهؤلاء لا يهتمون كثيرا بأن يستوعبوا ما اندفعوا لقراءته، وهنا أتوقف عند رسالة تحدد أنواع القراء، وقد كتب الراحل الكبير توفيق الحكيم تلك الرسالة، مصورا عبر سطورها كيف يقرأ ما يود قراءته، ومقارنا بين طريقته المستندة إلى الاستيعاب وطريقة قراءة قارئة متسرعة لا تريد إلا أن تتسلى. في تلك الرسالة التي يضمها كتاب جميل بعنوان زهرة العمر، يتحدث توفيق الحكيم عن الراقصة الفرنسية التي أقامت معه لبعض الوقت في شقته التي كان يستأجرها في باريس، مشيراً إلى الفارق بين طريقة قراءتها للروايات والمسرحيات وطريقته هو في قراءتها، بحيث نستطيع أن نكتشف الفارق بين قراءة الإنسان العادي الذي لا يعنيه فن الرواية أو المسرحية بقدر ما تهمه الحكاية في حد ذاتها، وبين قراءة الكاتب المبدع الذي يريد اكتشاف أسرار الفن الأدبي من خلال النماذج التي يتمهل في قراءتها.يقول توفيق الحكيم لصديقه الفرنسي أندريه: "الواقع أن هذه الراقصة التي تقيم معي كانت سريعة القراءة إلى حد كان يدهشني، إنها تتم قراءة القصة التمثيلية في ساعة واحدة، وأنا الذي أقرأها في يومين أو ثلاثة، ولكن هناك فارقا هائلا بين قراءتي وقراءتها! إنها تقرأ للحكاية في ذاتها.. أما أنا فلا تعنيني حكاية الكاتب، بل يعنيني فنه وسر صناعته وطريقة أسلوبه في البناء وخلق الأشخاص ونسج الجو وإحداث التأثير.. إني أعيد أحيانا قراءة الفصل الواحد، بل الصفحة الواحدة مرات.. لذلك لم تكن قراءة ساشا تصلح أساسا حتى للمناقشة ومبادلة الرأي، وما كنت أجني منها إلا ذلك المصباح المسلط على رأسي والدخان الذي يضيق به صدري في ذلك الهزيع الأخير من الليل.بطبيعة الحال، فإن القارئ المتسرع هو الذي يسيطر عليه الفضول، كما أننا – في أدبنا العربي وفي حياتنا اليومية – نواجه كل إنسان فضولي بالقول الشهير: "لا تتدخل فيما لا يعنيك"، وحول هذا المعنى الذي تختل فيه المقاييس والمعايير يقول صلاح عبد الصبور:قلتم لي.. لا تدسس أنفك فيما يعني جاركلكني أسألكم أن تعطوني أنفيأنفي في مرآتي مجدوع الوجههذا زمن الحق الضائعلا يعرف فيه مقتول من قاتله؟ ولماذا قتله؟!وإذا كان الفارق كبيرا بين الفضول وحب المعرفة، إلا أنني لا أريد أن أظلم القراء المتسرعين، ولا أريد أن أنحاز إلى القراء المتمهلين المتأملين، فللناس فيما يعشقون مذاهب، وأعتقد أن الحياة برحابتها واتساعها تستوعب الجميع، دون إقصاء لأحد أو تمييز لسواه!