12 سبتمبر 2025
تسجيلمن غير المعروف تماما من الذي أطلق تسمية "الربيع العربي" على الأحداث التي شهدتها بعض البلدان العربية في عامي 2011 و2012 والتي أحدثت تغييرات عميقة في مجتمعات كل من تونس ومصر وليبيا واليمن لتقتصر الآن على الأحداث الدامية التي تشهدها سوريا والتي يكتنفها الغموض بسبب تضارب المصالح الإقليمية والعالمية هناك. وحتى الآن، فإن هذا الربيع لم ينبت أزهارا ينتشي الناس برحيقها الجميل، بل إن الأوضاع تتجه للمزيد من التدهور الاقتصادي والأمني، ففي كافة هذه البلدان ارتفعت معدلات البطالة وهربت رؤوس الأموال وتدنت عائدات قطاعات اقتصادية رئيسية وتراجع الإنتاج وأصبحت هذه البلدان أكثر اعتمادا على المساعدات الخارجية، حيث قدرت الجامعة العربية خسائر الربيع العربي بـ 56 مليار دولار وتوقعت أن يتضاعف هذا المبلغ ليصل إلى 120 مليار دولار في هذا العام. وإذا ما أخذنا مصر، كأكبر وأهم بلدان الربيع العربي، فقد انخفضت احتياطيات الدولة إلى أكثر من النصف وربما تتلاشى هذه الاحتياطيات تماما مع نهاية العام الجاري، في المقابل ارتفع فيه الدين العام إلى مستويات قياسية بلغت 226 مليار دولار، وذلك لأول مرة في تاريخ مصر، كما تحول الفائض بميزان المدفوعات في عام 2010 والبالغ 1.3 مليار دولار إلى عجز بمبلغ 18.3 مليار دولار في العام الماضي 2011، في الوقت الذي احتدمت فيه الصراعات السياسية والطائفية، مما أدى إلى أن تعلن محافظة بورسعيد مؤخرا عن تهديدها بالانفصال وتشكيل "جمهورية بورسعيد"! أما في ليبيا التي استعادت بسرعة مستويات إنتاج النفط لتصل قريبة من معدلاتها ما قبل الأحداث، وذلك بفضل مساعي شركات النفط الأجنبية للاستفادة من الأسعار العالية من جهة وللتعويض عن صادرات النفط الإيرانية التي انخفضت بفعل العقوبات المفروضة عليها بسبب برنامج إيران النووي المثير للجدل، فإن هذا البلد قدرت خسائره بأكثر من 50 مليار دولار، وذلك إلى جانب عشرات المليارات الموظفة في الخارج وغير القادرة حتى الآن على استردادها، فإنها معرضة بدورها للتجزئة والانقسام أكثر من غيرها، فالولايات النفطية تسعى وبقوة للانفصال وتشكيل دول مستقلة للاستحواذ على عوائد النفط الهائلة وحرمان بقية المناطق الليبية منها، في الوقت الذي تقف الحكومة المركزية عاجزة عن فرض الأمن والنظام. وفي تونس، فإن الأمر يبدو أكثر استقرارا، إلا أن الاقتصاد التونسي مازال يعاني ولم يحقق أي تقدم منذ أكثر من عام، فرؤوس الأموال الهاربة لم تفكر في العودة حتى الآن، ومازال القطاع السياحي يعاني بسبب إحجام السياح، وبالأخص الأوروبيون من في زيارة تونس، وذلك لمخاوفهم الناجمة عن أنظمة الحكم الجديدة والتي ربما تنوي فرض عقوبات قاسية على العديد من الممارسات المعتادة التي يقوم بها السياح عادة في مناطق السياحة في مختلف بلدان العالم، مما كبد القطاع السياحي المهم في بلدان الربيع العربي خسائر قدرتها منظمة السياحة العربية بأكثر من 100 مليار دولار. أما في اليمن السعيد، فقد اختفى ما تبقى من سعادة لدى الناس ليواجهوا أوضاع اقتصادية صعبه ناجمة عن فقدان الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من ثلث قيمته ونقصا كبيرا في السلع الأساسية وصراعات قبلية وسياسية وطائفية خطيرة، وبالأخص بعد دخول قوى خارجية بثقلها في هذا لصراع في بلدا فقير يبحث عن طريقه التنموي للتغلب على الفقر والتخلف الذي يعصف به منذ سنوات طويلة. ومن حسن حظ اليمن أنه مجاور لدول مجلس التعاون الخليجي التي بذلت جهودا مضنية لوقف أعمال العنف وتمهيد الطريق للانتقال السلمي للسلطة، ومن ثم تقديم مساعدات مالية وإنسانية لتجاوز تداعيات أحداث "الربيع العربي" هناك. ويبدو أن سوريا والتي بلغت خسائرها حتى الآن أكثر من 40 مليار دولار ستكون أكثر هذه البلدان تضررا اقتصاديا وتدميرا سياسيا وطائفيا، فالمحصلة هناك ستكون كارثية لتخرج منها سوريا بلدا مدمرا وممزقا، كما هو حال العراق الذي تتبخر فيه شهريا مليارات الدولارات من عائدات النفط، في الوقت الذي لا تمطر فيه السماء العراقية بشيء من هذا البخار لتسقي أوراق الاقتصاد العراقي الجافة. وحدها البحرين استطاعت بفضل حكمة تعاملها مع الأحداث وبفضل مساندة أشقائها في التحالف الخليجي من تجاوز معظم تداعيات العام الماضي بأقل الخسائر لتضع نفسها من جديد على طريق الازدهار الاقتصادي والتنمية ولتقدم دول المجلس مجتمعة درسا آخر في حل المعضلات التي تواجهها، وذلك بعد أن قدمت على مدى الأربعين عاما الماضية تجربة تنموية تستحق الدراسة والاهتمام، مما يؤكد مرة أخرى على أهمية الاتحاد الخليجي لتنمية واستقرار كافة دول المجلس. والحال، فإن العالم العربي بحاجة لربيع آخر، ربيع مزدهر اقتصاديا ومستقر سياسيا ويوفر للمواطن العربي المساواة والحياة الكريمة وفرص العمل والتعليم والخدمات الصحية وأسس التنمية المستدامة بعيدا عن المزايدات والانقسامات، عندها فقط يمكن لهذا الربيع أن يزهر وأن تفوح منه رائحة الحياة والتقدم الاقتصادي.