01 أكتوبر 2025
تسجيلأحياناً تمر الصدفة أو الحدث العابر الذي قد يحمله هديل حمامة أو طنين نحلة أو حركة موج، على البعض من الناس محفّزاً دهشة مثيرة ومشاعر مختلطة وتساؤلات تبحث عن حلول، قد تخرج بعد ذلك للعالم على هيئة قصيدة أو لوحة أو اكتشاف علمي. فهذا الأمير الشاعر أبو فراس الحمداني وبينما هو جالس في سجنه وحيداً بائساً يضنيه الشوق للأهل والأحبة في الوطن إذا بحمامةٍ تقف صدفةً على قضبان شباك محبسه وتهدل هديلاً أشبه بالنواح أثار لواعجه فأخذ يناشدها ويخاطبها بقصيدته الشهيرة التي بدأها بقوله: أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتاه هل تشعرين بحالي؟ معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا مرت منك الخطوب ببالِ الى آخر هذه القصيدة الرائعة التي تعبر عن المشاعر الإنسانية المختلطة المتأرجحة بين الحنين والرجاء والصبر والعنفوان. المصادفة أيضاً قادت الحسن بن الهيثم عندما لاحظ الطريقة التي يمر بها الضوء خلال ثقب في مصراعي نافذة، هذه المصادفة جعلته يجري التجارب الواحدة تلو الأخرى في غرفة أو قمرة مظلمة قام بتمرير ضوءٍ من خلال ثقب صغير فيها، لتكون قمرة ابن الهيثم السلف الشرعي للكاميرات التي اختُرعت في فترات لاحقة. وكانت الصدفة أيضا حافزاً لمؤسس علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي سمع أصوات الطرْق والدق القوية في سوق الغسالين ليعود الى بيته مستغرقاً في استعادة رتابة الأصوات في ذهنة، وليتدلى في بئر منزله ويدق على جدران البئر بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة، بعد أن عكف على قراءة أشعار العرب ودراسة الإيقاع بها، حتى تمكن من ضبط أوزان خمسة عشر بحراً يقوم عليها نظم الشعر، فكان علم العروض وليد الصدفة الغريبة. أما التفاحة الشهيرة التي سقطت صدفةً على رأس نيوتن وكان لها الفضل في أن يحفّز العالم الإنجليزي إسحق نيوتن ذهنه ويجري أبحاثه ودراساته الى أن توصل لقانون الجاذبية الأرضية الذي مهد الطريق لعلم الميكانيكا الكلاسيكية. أما النساء السمراوات المستلقيات بضجر على رمال البحر في تاهيتي، واللاتي رآهن الرسام الفرنسي الشهير بول غوغان صدفةً فقد أوحين له برسم لوحته الشهيرة نساء من تاهيتي، التي أعقبها بمجموعة من اللوحات تحكي تفاصيل يلتقطها غوغان مصادفة من حياة النساء في تلك الجزيرة النائية الوادعة في مياه المحيط الهادي. ومثل غوغان أبدع الفنان الياباني الغريب الأطوار هوكوساي لوحات استوحاها من الصدف التي تمر به في عالم العوام كما كان يطلق على المدرسة الفنية التي يسجل فنانوها تفاصيل تلقائية من حياة المهرجين وبائعي السمك ودهماء المدن، حتى إن مجموعته الفنية المسماة جبل فوجي أعطت صورة واضحة للعالم عن التفاصيل البسيطة في اليابان التي كانت عالماً مغلقاً على نفسه في القرن التاسع عشر والقرون التي سبقته. وتأتي لوحته الشهيرة التي أسماها انكسار الموج في جبل فوجي واستوحاها صدفة عند مشاهدته الصيادين الفقراء الذين يصارعون الموج بحثاً عن رزقٍ عزيز في لجة البحر، الذي يشرف عليه جبل فوجي بكل كبرياء وجبروت بقممه الشاهقة المغطاة بالثلج. الصدفة قد تكون محركاً لعالم مدهش مسكون بالإبداع، وقد تمر في حياتنا مثل أشياء أخرى مرور الكرام لا تستوقف منا لحظة تأمل أو حتى دهشة.