13 سبتمبر 2025

تسجيل

ماذا بقي من حياد العلمانية؟ (2)

01 فبراير 2015

عندما جاء عصر التنوير ـ كما سمي آنذاك ـ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كان أهم ما اتسم به تفجر النزاع حول حق الرجل العادي في النظر بنفسه في أمور الدين والعقيدة. فقد كانت ثمة تفرقة واضحة جلية بين رجل الدين وبين غيره، كان على رجل الدين وحده واجب الإلمام الواسع بالعقيدة وتفاصيلها وما كان أحد لينتظر من غيره التبحر فيها أو يطالبه بأكثر من فكرة بسيطة عن الأركان الأساسية للدين أما غير ذلك من المسائل التي لا يحيط بها علمه ولا طاقة لقدرته على الفهم بها فعليه بصددها أن يذعن لرأي الكنيسة، وأن يطيع أوامرها طاعة عمياء، وقد رضيت الكنيسة بهذا الوضع منذ نشأتها ورضي به الرجل العادي واستقر الاعتقاد بأنه لا مناص من أن يكون هذا الرجل العادي جاهلاً إلى حد كبير بالشؤون الروحية. فالصراع والتناقض أوجدا معايير تنافر بين الكنيسة ودعاة التنوير والتجديد أو كمحاولة توفيق بين متناقضين كل تناقض يقطع الآخر، فكان ـ كما يقال ـ كمن يركب حصانين أحدهما أمام العربة والآخر وراءها، فهما متقابلان، فهذا يجرها إلى الأمام وذلك يجرها إلى الخلف، فكانت أوروبا بطبيعتها المتحمسة تنطلق بشدة إلى الأمام، وكانت المسيحية نتيجة الآراء والأساطير والرهبانية والعزلة تدفع العربة إلى الخلف، لكن في نهاية هذا الصراع والتنافر وجدت الكنيسة أنها خسرت السباق والتنافس مع دعاة التنوير والتغيير في أفكار الكنسية وتراجعت إلى الخلف مع ازدهار العلوم ووسائل البحث العلمي وانصراف الكثير من الناس، خاصة الطبقة المتعلمة عن الوصاية الروحية الكنيسة وتعلقهم بمنجزات العلم وحده لكونه حقق الكثير من آمال ومتطلبات التقدم والرخاء والسعادة المادية. لذلك أسهم رواد التنوير في القرن الثامن عشر وما بعده في زيادة الهوة بين الدين والعلم، ليس على أسس علمية بل لعوامل وكوامن نفسية ونقائض فلسفية أسهمت الكنيسة في ترسيخه في الوعي الأوروبي، وأرادت أن تعممه على كل دين وملة بهدف تشويه النظرة إلى العقائد بعدما نسفوا هم مرتكزات قيم الدين المسيحي.وهكذا ربطت فلسفات التاريخ كما يقول د. محمد عابد الجابري، والتي عرفت رواجاً واسعاً في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بين "المستقبل الماضي "و"المستقبل الآتي" في صيرورة واحدة تبلغ قمتها، وكمال سيرورتها في أوروبا، وهي لم تعمل في واقع الأمر إلا على استعادة المشروع البابوي بإنزاله من سماء العناية الإلهية إلى صيرورة التاريخ البشري مع الإفصاح عن مضمونه العنصري القومي بربطه بأوروبا عامة وشعوب الشمال خاصة. وهكذا ترسخت في الوعي الأوروبي ظاهرة التمركز حول الذات فصار ينظر إلى أوروبا على أنها وحدها "الأنا" أما باقي العالم فبمجرد " آخر " موضوع لها.صحيح أن الغرب عندما انقلب على الكنيسة وجردها من سلطاتها وأزاحها من مكانتها الكبيرة في المجتمع الغربي، لكنه لم يتنازل كلية من طموحات هذه البابوية وذاكرة المركزية الأوروبية وإنها محور الإنسانية وتاريخها وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً وتأسيس ذاكرة ثقافية محور "الأنا" الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً.. وهذه عقلية بقيت راسخة حتى بعد سقوط البابوية وتأسيس "العلمانية" وطرح الأفكار التنويرية في التسامح وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات المصاحبة لها. وإذا كان فلاسفة التاريخ "العلمانيون" سيسلكون في تقرير هذا المشروع مسلكاً فلسفياً عقلياً يجتهد في إخفاء خلفيته البابوية والتنكر لأصوله الدينية، فإن المؤسس الفعلي لفلسفة التاريخ في الثقافة الأوروبية لم يتنكر لتلك الأصول ولا لتلك الخلفية، بل بالعكس اعتمدها اعتماداً صريحاً.. إنه الأسقف الفرنسي بوسيه (1627 ـ 1407). وفلسفة بوسيه التاريخية تقوم كما أبرز ذلك مؤرخ مختص على فكرة "أن الإنسانية إنما خلقت من أجل الكنيسة"، إنها نفس المسلّمة التي قامت عليها فلسفات التاريخ "العلمانية" مع تعديل بسيط يتمثل في إحلال كلمة أوروبا أو "الغرب" محل "الكنيسة"، إن فلسفة التاريخ في الثقافة الأوروبية مبنية كلها فعلاً على هذه المسلمة، مسلمة "أن الإنسانية إنما خلقت من أجل أوروبا".وقد عبر عن هذه الأيديولوجية الغربية في نظرتها للآخر المخالف أصدق تعبير ما قاله البروفيسور "روبرت سولمون" في كتابه (ثقافة الهيمنة) عندما تناول أيديولوجيا الهيمنة والثقافة المهيمنة ويدين إفراطاتها وادعاءاتها. ويركز على فترة ساحرة من التاريخ والثقافة الأوروبيين الحديثين (1750 ـ 1850) عندما بدأ المثقفون الغربيون ينظرون إلى التقاليد والقيم الثقافية الغربية على أنها المنقذ والمرشد للحضارة الإنسانية بأكملها، ومن خلال دراسته لأهم الفلاسفة والمفكرين والفنانين الغربيين البرجوازية المتعالية باسم "الإنسانية" يخلص سولومون إلى أن الوقت قد حان لكي يدرك الغرب كم كانت حضارته متجذرة ليس في كونيتها وإنما في ادعاءاتها بهذه الكونية، وإن على الثقافة الأوروبية والغربية بشكل عام أن تدرك أنها مجرد واحدة من الثقافات المتعددة، وأن مفهومها للطبيعة الإنسانية ليس إلا أسطورة من أساطير متعددة. ويختتم سولومون كتابه بالقول: إن هذه الأساطير الهوميرية التي يحبها فلاسفة من أمثال روسو وكانط وهيجل وماركس قد انتهت أو يجب أن تنتهي، وأن الوقت قد حان لكي تبدأ الحضارة الغربية بالاستماع إلى الشعوب والحضارات والثقافات الأخرى بشكل جدي". فليس من قبيل المصادفة البتة، بل على العكس ومن باب الانسجام الفكري أن يكون أعظم حامل لهذه الأيديولوجيا مؤسس المدرسة العلمانية "جول فري" هو في الوقت نفسه المحرض على الغزو الاستعماري في مدغشقر في تونس والفيتنام.. هذا المفكر الواضح كان في فرنسا المنظر الأعنف للاستعمار، مثلما كان في إنجلترا شيوارت ميل وهو تلميذ آخر من تلامذة وضعية "أوجوست كونت" ففي خطابه يوم 28 يوليو 1885 أمام مجلس النواب أعلن: "أجل نحن نتبنى سياسة توسع استعماري قائمة على نظام وهذه السياسة الاستعمارية تقوم على ثلاث قواعد: اقتصادية.. إنسانية وسياسية".وفي فقرة أخرى قال: "لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا هو من التاريخ، إنه من الميتافيزيقيا السياسية. أيها السادة لا بد من القول بصوت أرفع وبحقيقة أكثر، يجب القول بصراحة إن للأعراق العليا حقاً عملياً على الأعراق السفلى.. وقد لاقت الكثير من النظريات والفلسفات النقد والاتهام من فلاسفة أوروبيين ناقشوا الكثير من الآراء والمنطلقات البعيدة عن مفاهيم القيم الروحية ومنهم الفيلسوف الألماني "شبنلجر" في كتابه: "انهيار الحضارات" ود. أليكس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) و"جوليان هكسلي" بدراسته الفلسفية المعارضة "للداروينية" وقد طرح هؤلاء وغيرهم أن المقياس الحقيقي لعظمة الإنسان هو مقدار تأثير إبداعاته المادية في مشاعره وعواطفه وكيانه النفسي، فإذا استعملها للسمو بالإنسانية فهي مظهر عظمة صادقة. وإن استغلها في سبيل الفتك والقهر والأثرة والأنانية والاستغراق في الملذات فهي مظهر انحطاط وانهيار.وحاولت العلمانية بعد مزاحمتها للكنيسة في التأثير والمكانة في المجتمع الأوروبي أن تستعيد الذاكرة السلطوية لرجال الدين في التميز والهيمنة من خلال الادعاء "بالكونية" والفرادة للغرب ومن منظور الفلاسفة أنفسهم وشجعوا حتى الاستعمار، وهذا الموقف المزدوج للعلمانية في الغرب جعلت البعض يتشكك في مصداقية مقولاتها عن الحرية والتسامح تجاه الآخر، الذي اعتقد أن عصر "الأنوار" هدم مفهوم "الحرب الصليبية" الذي كان هدفها في الأساس سياسي، وليس دينيا، وأقام نظاماً جديداً يقوم على حرية المعتقد وحقوق الإنسان وغيرها من مقومات عصر النهضة وما تلاه من أسس ومبادئ فـي الإخاء ـ والمساواة والحرية. وهذا ما خالفته الحكومة الفرنسية بقرارها بمنع الحجاب في المدارس الحكومية، ثم الإساءات عبر بعض الصحف للإسلام ورموزه مع أن حديث العلمانية عن الحياد لا يكف في أدبياتهم.