13 سبتمبر 2025

تسجيل

إن للبيت رباً يحميه

31 ديسمبر 2020

ثقافة التعظيم تختلف عند الشعوب أو الحضارات، فما تجده أنت وتعتبره عظيماً، يراه آخر على النقيض، والأمر سببه عقائد أو مجموعة قيم تشكل لدى الإنسان هذه الثقافة. كانت العرب من لدن الخليل إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – تحج إلى مكة للطواف بالبيت العتيق، وكان هذا البيت العتيق له مكانته عندهم رغم تواضع بنائه، فما كان سوى حجرة مبنية من حجارة، وتعارف العرب على تعظيم وتقديس وأهمية هذا البناء، حتى صار الأمر ثقافة انتقلت بينهم جيلاً بعد جيل، على رغم تلوثها بأفكار وثنية، كانت من بين نتائجها امتلاء الكعبة وما حولها بالأوثان، ولكن رغم ذلك بقيت للكعبة قدسيتها رغم تواضع بنائها - كما أسلفنا - وهي ذات النقطة التي لم يستوعبها أبرهة الحبشي. ربما ظن أبرهة أن العرب تقدس بناءً متواضعاً نظراً لتواضع حيلتهم وثقافتهم، فقرر أن يبني "القليس" وهي الكنيسة التي بناها وزينها في اليمن ليحج إليها العرب بدلاً من الكعبة، فلم يتحقق له ما أراد، على رغم فخامة البناء وعظمته، إذ حسب المصادر التاريخية، كانت الكنيسة محاطة بفضاء فسيح للتنزه، وكان مدخلها على الجانب الغربي ويتم الوصول إليه بارتقاء سلم شديد الانحدار من المرمر، وتم تشييد المبنى بكامله على مرتفع يزيد ارتفاعه عن خمسة أمتار، وطليت أبوابها بالذهب والفضة، وكان يوجد من الداخل جناح ثلاثي، طوله خمسون متراً وعرضه خمسة وعشرون متراً، ويرتكز عقده على أعمدة من الخشب الثمين ومزينة برسوم ومسامير من الذهب والفضة. وكانت "القليس" على شكل قبة بقطر حوالي عشرين متراً، وجدرانها مغطاة بالفسيفساء تمثل صليباً من الذهب والفضة، وفي مركز القبة لوحة من الرخام البراق تسمح بمرور النور، وكان البلاط المستخدم من المرمر الملون، وكانت الأبواب بالكنيسة مموهة بالذهب ومرصعة بالأحجار الكريمة، ومن حول هذه الجواهر حفرت زهور مختلفة تصنع حالة من الاندهاش والهيبة لدى الزائر. رغم كل فخامة وعظمة ذلك البناء في تلك الفترة التاريخية، إلا أنه لم يحج العرب إليه، ما أثار غضب أبرهة الحبشي الذي وإن اغتر بقوته العسكرية، إلا أن ثقافته الضحلة لم تساعده على فهم سر تقديس العرب لبيت عتيق لا مجال للمقارنة بينه وبين القليس. فكانت نتيجة تلك الثقافة الضحلة لأبرهة، وعدم فهمه لثقافات الشعوب الأخرى وعقائدهم وطرائق تفكيرهم، أن قرر غزو مكة وهدم هذا البناء القديم المتواضع، انتقاماً من تسفيه العرب لرؤيته وإحدى صنائعه أو إنجازاته. تقدم أبرهة جيشه الجرار، ومعهم فيلة ضخمة مدربة لم ترها العرب وتألفها، فما كان من أهل مكة إلا أن غادروها إلى الجبال والشعاب، ينتظرون أبرهة ما هو فاعل في مدينتهم وبيتهم المقدس العتيق. وقد جرت عدة مشاهد بين أبرهة وأهل مكة، وكان من أبرزها حوار بين أبرهة وعبدالمطلب – جد نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام - وسيد مكة آنذاك. دخل عبدالمطلب على أبرهة، الذي احترم وقاره وشيخوخته ومكانته في قومه، وظن أنه سيطلب التفاوض على مسألة مهاجمة مكة، لكن المفاجأة أذهلته حين سأله استرداد إبله التي استولى جنوده عليها، ولم يتحدث عن مكة أو البيت العتيق! فزالت الهيبة من نفس أبرهة لعبدالمطلب، وأمر جنوده بإعادة إبله، لكنه استغرب سؤاله عن الإبل ولم يسأل عن البيت المقدس عند أهل مكة، وحمايته من جيشه الجرار، فما كان منه إلا أن قال: أما الإبل، فأنا أحميها، وأما البيت فإن له رباً يحميه. هذه هي النقطة التي لم يفهمها أبرهة، إذ على رغم طغيان الوثنية على أهل مكة، إلا أن تقديسهم للبيت العتيق لم يكن لذاته أو شكله ومظهره أو فخامته وضخامته، بل بسبب اعتقادهم أنه خاص ومرتبط برب قادر على فعل ما يشاء وقتما يشاء، ولعل هذا سر تركهم مكة والكعبة لمن يقدر على حمايتهما، وهو ما لم يدركه أبرهة، فكان نصيبه حجر من سجيل، دفعه إلى أسفل سافلين. انتهى الحوار وعاد عبدالمطلب إلى الجبال مرة أخرى مع إبله، لينضم إلى بقية أهل مكة، ينتظرون أبرهة ما هو فاعله، فحدث ما حدث من القصة المعروفة والمختصرة الواضحة في سورة الفيل، واندحار أبرهة وجيشه، بحجارة من سجيل جعلتهم كعصف مأكول. الشاهد من القصة أننا نحن المسلمين وبفضل الله، عقيدتنا واضحة لا غبار عليها، لمن أراد بالطبع العقيدة الصافية الواضحة كما جاء بها النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - فإن الوثنيات على شكل أصنام وما شابه، أو مظهريات ومزخرفات مصاحبة لها، انتهت يوم أن حطم الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – الأوثان وملحقاتها في فتح مكة، وأعاد للكعبة هيبتها المعنوية بربطها بالله عزوجل. إن تعظيمنا لها ليس لحجمها أو طريقة بنائها والمواد المستخدمة في البناء والتشييد، لا، ليس لذلك كله، نعظم البيت لأننا نعظم الخالق عزوجل، بدليل أنه – صلى الله عليه وسلم – ترك الكعبة كما هي، ولم يأمر في حياته القصيرة بعد فتح مكة أو يأمر أحد أصحابه من بعده، بإضفاء أي هيبة مادية على الكعبة من خلال مواد البناء وغيرها، مما حدث وصار بعد ذلك في عهود خلفاء بني أمية ومن جاء بعدهم إلى يوم الناس هذا. اليوم قد تبهرك فخامة بناء المسجد الحرام، وفخامة الكسوة وباب الكعبة المرصع بالذهب، وتبهرك كمية الإضاءات والأبراج المحيطة بها، لكنها مبهرات لحظية سرعان ما تتلاشى مع أول لفة في الطواف وأداء بقية المناسك للحاج أو المعتمر أو الزائر. المسلم يزور البيت الحرام، ليعيش أجواء روحانية يتذكر خلالها الخليل وابنه – عليهما السلام – ويتذكر خاتم الأنبياء وصحبه الكرام، ومشاهد أخرى تعمق الإيمان وتنعش القلب. المسلم الحق لا تعنيه كثيراً أو تؤثر فيه فخامة المباني بزخارفها المتنوعة، ولا الذهب والفضة والحرير، بل إن آراء كثيرة كانت ترى أن الإبقاء على المباني التاريخية كما هي، دون مبالغات أو إضافات، له وقع مؤثر على النفس، ومنها مكة المكرمة، التي لو تمت المحافظة على أبنيتها القديمة وآثارها منذ إسماعيل – عليه السلام – وصيانتها بين الحين والآخر، كما هي الأوضاع مع أجواء المسجد الأقصى والمباني المحيطة به، لكان أجدى وأكثر تأثيراً على النفس، من تلك الهياكل والمجسمات والغابات الاسمنتية البديلة المحيطة بالكعبة المشرفة، التي تشعرك بجمود وصلابة الحضارة المادية الحديثة، والتي تبعدك مظاهرها وأجواؤها عن الأجواء الروحانية في تلك البقاع أكثر مما تقربك إليها، وهو الانطباع الذي لا أشك أن أي زائر لمكة، شعر به في وقت من الأوقات. [email protected]