10 سبتمبر 2025
تسجيلثمانية وثلاثون سنة مرت على وفاة أحد رجالات الدولة الجزائرية المعاصرة، الرئيس هواري بومدين الذي وهب حياته لخدمة بلده. عرف عنه العمل والمثابرة والجد والتواضع وحب الفقراء والمساكين والمهمشين، لم يجمع الأموال والعقارات والفلل والقصور. تميز بحبه للفلاحين والعمال، كان يرفض الجمع بين السياسة والمال وكان يقول للمقربين منه من يحب المال والأعمال فليترك منصبه في الحكومة. السؤال الذي يعود للأذهان بمناسبة ذكرى وفاته هو هل يعرف الجيل الحالي هواري بومدين؟ هل يعرف عن تأميم المحروقات وعن مؤتمر دول عدم الانحياز سنة 1973 وهل يعرف شباب اليوم عن المطالبة بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد؟ كنت أتمنى اليوم بمناسبة الذكرى 38 لوفاته تبادل الشباب الجزائري لخطبه وصوره ومواقفه عبر اليوتيوب والفيسبوك وغيرها من محطات التواصل الاجتماعي. هل أخذ الرجل حقه من التأريخ؟ هل تداولت وسائل الإعلام الجزائرية المختلفة مواقفه وإنجازاته ودوره على الساحة العربية والإفريقية والعالم الثالث وعلى مستوى الحركات التحررية في جميع أنحاء العالم؟ الفساد اليوم أصبح لغة المال والأعمال والإدارة والسياسة في الجزائر. مليارات الدولارات تنهب وتهرب ولا من رقيب ولا من حسيب. أزمة خانقة تلم بالبلاد في فراغ أخلاقي لا مثيل له أزمة تبعث بتيار جارف من الحنان إلى رئيس ميزته النزاهة والأخلاق ونبذ الاستيلاء على المال العام واستغلال المنصب والنفوذ لجمع الثروة. هناك تعتيم على مرحلة بومدين الثورية، فالرجل يشهد له التاريخ بتأسيس المخابرات والمواصلات السلكية واللاسلكية وهو الذي كان يقود بنفسه الكتائب التي كانت تنقل الأسلحة من الحدود الغربية إلى داخل الولاية الخامسة حتى جبال الونشريس بالولاية الرابعة، والأهم من كل هذا هو إعادة تشكيل وحدات جيش التحرير بعد أن فكّكت وتشردت بداية من سنة 1958، فكوّن هيئة الأركان المعروفة، وأعاد هيكلة جيش التحرير الوطني في الداخل وعلى الحدود، وسلّح الجيش تسليحا عصريا، وأصبح يهدد فرنسا بالحرب الشاملة والمفتوحة، وكان يريدها على شاكلة الحرب الفيتنامية، وهذا واضح مع بداية 1961، مما جعل ديغول يتخوف من" ديان بيان فو" ثانية، ويقرر الاعتراف بتقرير المصير، والجلوس إلى طاولة المفاوضات. يعتبر بومدين الأب الروحي لجيش التحرير بعد كل النكبات التي حلت به بعد لقاء الصومام، وهذا لا يختلف فيه المجاهدون الذين عاصروا الأحداث الأليمة وقتها، خاصة جنود وإطارات الولاية الأولى والقاعدة الشرقية الذين تعرضوا لكل أنواع الإهانات قبل مجيء بومدين، وفيهم من هم على قيد الحياة. هناك كلام عن انقلاب بومدين على بن بلة والإطاحة به والاستيلاء على الحكم. القضية من الناحية الدستورية البحتة تعتبر انقلاب عسكري على الشرعية الشعبية، أما من الناحية الموضوعية فإن الشرعية السائدة وقتها عمليا هي الشرعية الثورية، فالشرعية التي ساعدت بن بلة هي التي أطاحت به، وفي جميع الحالات يكفي التصحيح الثوري فخرا أنه أخرج 2500 شخص به وطنية كانت في المعتقلات من دون محاكمة، وأدخل 05 أشخاص ممن عارضوا التصحيح الثوري ثم أطلق سراحهم بعد أيام. جميع الخيارات التي تبناها بومدين هي خيارات منصوص عليها حرفيا في برنامج مؤتمر طرابلس المصادق عليه من طرف المؤتمر بالإجماع على خيارات النظام الاشتراكي والإصلاح الزراعي، وقد عمل بومدين ما في وسعه لتجسيد ما جاء في وثيقة طرابلس بما يعرف بالثورات الثلاثة (الزراعية-الصناعية- الثقافية)، وقد كان المشروع ككل في بدايته مع قلة الموارد المالية وندرة الإطارات والكوادر الوطنية، ولكن رغم ذلك أسس لقاعدة صناعية صلبة ما زالت الجزائر تعيش عليها، وأسّس لثورة زراعية أخرجت الفلاح من نظام الرعي والخماسة، وأدخلته في تيار العصرنة، ولم تكتمل التجربة، حيث تم التراجع عنها سنة 1979 من طرف حكومة قاصدي مرباح بطريقة ارتجالية وغير مدروسة، وما زال القطاع الفلاحي يعيش في فوضى إلى اليوم، أما بالنسبة للثورة الثقافية في عهد بومدين فعرفت نقلة نوعية في جميع المجالات، خاصة في التعليم بجميع مراحله زيادة على البعثات الدراسية في الخارج، لكن مع الأسف بعد وفاته توقف كل شيء، حتى الذين تكونوا في الخارج عندما عادوا لم تتم الاستفادة منهم فهاجروا من جديد، وهم الآن في أكبر عواصم العالم، ولهم مكانتهم العلمية، وفي عهده برزت نخبة لا بأس بها من المثقفين الرواد في جميع أنواع الثقافة من جيل السبعينيات، من شعراء وكتاب وأدباء ومفكرين وباحثين ومبدعين، وما زال معظمهم في الساحة إلى اليوم .