16 سبتمبر 2025

تسجيل

العلمانيون وطواحين الهواء

31 ديسمبر 2014

يستنزف الخطاب العلماني جزءا كبيرا من طاقته هذه الأيام في انتقاد الممارسات التي يصفها بالمتزمتة أخلاقيا للأنظمة السياسية العربية، صارفا جهده في التنديد بعدد من الممارسات الجزئية، بدلا من أن يركز على نقد الاستبداد كظاهرة منافية للحرية التي يفترض أنه يعرف نفسه من خلالها.إذ تحفل المواقع العلمانية بانتقادات مكثفة تتوجه بها لأنظمة الاستبداد، ليس بسبب اعتداء الأخيرة على المسار السياسي السلمي الذي حاولت الشعوب أن تسلكه في أعقاب ثورات الربيع العربي، وإنما بسبب التدخلات التي تمارسها هذه الأنظمة في الموضوعات ذات الطبيعة الأخلاقية، مثل الحملات التي تشنها عدد من الحكومات لمقاومة الإلحاد والمثلية الجنسية وعبادة الشيطان وغيرها. هذه الموضوعات على هامشيتها وعلى ضآلة من يهتمون بها أو يتضررون بسببها، تحظى باهتمام كبير من قبل التيارات العلمانية، التي التزمت الصمت بالمقابل إزاء العديد من الممارسات الاستبدادية الأخطر خلال الفترة الماضية.ورغم أن أنظمة الاستبداد لا تشن حملاتها الأخلاقية لحيثيات دينية، وإنما لأغراض تتعلق بتأكيد صورتها المحافظة أمام الرأي العام، أو لأغراض تعويضية تبتغي بها صرف الأنظار عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، أو عدم قدرتها على تحقيق الأمن، أو بسبب تورطها في فضائح فساد، أو بسبب احتياج هذه الأنظمة إلى غلالة دينية تضفي بها قدرا من الشرعية على طريقة وصولها أو بقائها في السلطة، إلا أن الأصوات العلمانية ترفض كل هذه الحيثيات وتعتبر أن التملق الديني من شأنه أن يستدعي خطاب المرجعيات الذي جاهدت في سبيل استبعاده وقبلت الاصطفاف مع قوى الاستبداد من أجل مواجهته.وأيا ما كانت الأسباب التي تدفع أنظمة الاستبداد لشن هذه الحملات فإن اهتمامها بهذا النوع من القضايا الأخلاقية يثير نوعا من التناقض الذاتي، نظرا لكون فعل الاستبداد نفسه فعلا غير أخلاقي، إذ يقوم على اضطهاد الخصوم واستباحتهم بالسجن والتعذيب والقتل، إلا أن الأصوات العلمانية لم يحركها هذا التناقض، ولا غيره من المشاكل التي ينضوي عليها، وتحركت فقط لكون هذه التدخلات تمثل تضييقا على المثليين والملحدين، معتبرة أن هذه الممارسات وحرية القيام بها هي التعبير الأساسي عن التسامح والتحرر الاجتماعي.بطبيعة الحال لم تظهر القوى العلمانية قلقا مماثلاً عندما تم استهداف العشرات أو المئات من المنتمين للتيارات الإسلامية على قربان استعادة الاستقرار ومواجهة خطط الفوضى الخلاقة ومقاومة تغيير هوية البلاد. فملاحقة المثليين والملحدين بالوصم والتمييز الاجتماعي أمر لا يغتفر، أما ملاحقة الإسلاميين بتهم الإرهاب والعنف فتبدو من وجهة نظرهم أمرا مقبولا. بعبارة أخرى قبلت النخبة العلمانية بانتهاك المجال العام لقطاعات واسعة من الشعوب، فقط لانتمائهم إلى المعسكر الأيدلوجي المنافس، فيما هبت منتفضة أمام انتهاك المجال الخاص لبعض الأفراد ممن ينتمون بشكل أو بآخر لمعسكرهم. والسؤال هو كيف يمكن تفسير هذا القلق العلماني من هذه الحملات "التجميلية أو التعويضية"، التي تقوم بها أنظمة الاستبداد والتي من المفهوم أنها تقوم بها لأغراض محض براجماتية، أحد الأسباب المحتملة أن هذه النخب قد وضعت جل رهاناتها على عزل الإسلام السياسي بهدف تمهيد الطريق لترسيخ أقدام العلمانية، وقد تورطت في سبيل ذلك في تحالفات انتهازية مع أنظمة الاستبداد، وكون الأخيرة تمارس الآن هذه الممارسات التجميلية، التي تقترب من ممارسات الإسلاميين فإن هذا يهدد بضياع الصفقة بأكملها من أيدي النخبة العلمانية، وفقدانهم لكل شيء، فهم لم يضحوا بالتحرر السياسي، في مقابل أن يتصدر اتجاه يأتي بنفس أفعال الإسلاميين الذين انقلب العلمانيون بسببهم على التجربة الديمقراطية. ولكن من الظلم أن نحصر الانتهازية السياسية في النخب العلمانية فقط، فهناك أصوات داخل التيارات الإسلامية تمارس انتهازية موازية، حيث تردد نفس الانتقادات العلمانية، لتؤكد على أنها لم تكن لتسلك نفس مسلك الأنظمة السلطوية فيما يخص الحريات الشخصية لو كانت في الحكم، بل ربما تباهت بعض هذه الأصوات بأنها خلال وجود أحد ممثليها في الحكم (جماعة الإخوان في مصر)، لم يحدث أن تدخلوا في الحياة الشخصية للأفراد بالطريقة التي تتدخل بها الأنظمة التي انقلبت على الإسلاميين.هذه الانتهازية تهدد بفقدان تيار الإسلام السياسي البقية الباقية من شعبيته، فمحاولته الاصطفاف مع النخب العلمانية مرة أخرى من أجل إحراز مكسب سياسي، عن طريق الاستفادة من زخم انتقاد أنظمة الاستبداد، يعني أنه لم يتعلم الدرس، إذ لا يتصور أن يتفاخر أي من الإسلاميين بأنه لم يسع لفرض الإطار الأخلاقي المستمَد من المعايير الإسلامية، في الوقت الذي كان هذا السلوك التهادني أحد أسباب فقدان الكثير من الناس ثقتهم في تجربة الإسلام السياسي برمتها.أما الأصوات العلمانية فلن يضيرها بطبيعة الحال أن تفقد التعاطف الشعبي من خلال دفاعها عن هذه الموضوعات، فرهان هذه الأصوات يكون دائما على قوى الخارج، وليس على الرأي العام الداخلي، الذي لا يحتل الدفاع عن الإلحاد والشذوذ موقعا متقدما في أولوياته بطبيعة الحال، الأمر الذي يجعل كفاح القوى العلمانية من أجل هذه الموضوعات الثانوية أشبه بمقاتلة طواحين الهواء.