18 سبتمبر 2025

تسجيل

غياب خليل وفرص سلام دارفور

31 ديسمبر 2011

كثيرة هي الدورس التي تلقاها خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة لكن قليلة بل معدومة الاستفادة منها.. كم تمنينا أن ينجو خليل وجماعته من تهور ورعونة عاصفة التوثّب ضارية.. لم يرعوي الرجل رغم هزائمه النكراء واتضاح خطل تقديراته السياسية والعسكرية.. كان إعلان القوات المسلحة عن مقتل خليل بمثابة إسدال الستار على لعبة خطرة مارسها خليل طيلة (8) سنوات، حين أعلن في العام 2003، تمرده وتكوينه لحركة العدل والمساواة بعملية استهدفت مطار مدينة الفاشر، دمر خلالها كثيرا من الطائرات والمنشآت، وقتل فيها عددا من رجال الشرطة والجيش والمدنيين.. ارتكزت الحركة في قيامها على أسس جهوية حين كون 25 عضوا من دارفور لجنة لجمع معلومات عن الوظائف القيادية في الدولة ومن يشغلها وما هي قبائلهم وأعراقهم، وكانت النتيجة هي إصدارهم (الكتاب الاسود) الشهير في مايو عام 2000م، كوثيقة تثبت من وجهة نظرهم استحواذ اهل وسط السودان، بل قبائل معينة في هذا الوسط على كل مفاصل السلطة.. في العام التالي 2001م، أصدرت الحركة الجزء الثاني من الكتاب الأسود وبثته على موقعها على شبكة الإنترنت داعية لمحاربة التهميش في السودان، وعقد مؤتمر جامع تشارك فيه الحركات الجهوية لمعالجة ما أسمته بالمظالم والمآسي التي ارتكبتها في حق السودان والسودانيين مجموعة صغيرة من الحكام. حادثة مقتل خليل رفعت درجة حرارة الأجواء السياسية بكشل خطير.. عقب يوم من مقتل الرجل وبعد أن أدى المصلون صلاة الفجر في مسجد حي المنشية وهو أقرب المساجد لمنزل زعيم المؤتمر الشعبي د. حسن عبد الله الترابي، التهبت مشادة (حادة) أشعلها أحد أنجال الترابي.. عقب الصلاة مباشرة وبعض النفوس يؤزها خبر مقتل خليل أزا.. قام شيخ يبدو عليه الوقار يتحدث ملمحا للحادثة دون أن يذكر خليل أو الإشارة إليه بالاسم، متناولا العبر والدروس التي يمكن الاستفادة منها في شأن الموت والحياة.. فجأة وبدون مقدمات قام نجل التربي غاضبا ومنفعلا بشكل لافت واتجه مباشرة نحو المتحدث وهو بين يدي الإمام.. قال الابن الغاضب وهو يرفع سبابته في وجه المتحدث وبصوت مرتفع: (أنت منافق كلكم منافقون.. خليل شهيد.. شهيد).. ثم خرج الابن مسرعا تكاد تسمع دقات قلبه من فرض الانفعال العنيف والمفاجئ.. الشيخ مضى مدافعا عن حديثه ومحذرا من رمي الناس بخصلة النفاق هكذا جزافا.. ثم قام د. بشير آدم رحمة وهو قيادي بحزب المؤتمر الشعبي وهو من سكان تلك المنطقة على ما يبدو وأحد المصلين المداومين في هذا المسجد.. رغم أن الرجل بدا أكثر تعقلا وهدوءا لكنه لم يستطع أن يصبر حتى يخلص الرجل الشيخ من كلامه ووقف بجانبه يقول له يطلب منه بعصبية الكف عن الحديث.. وعندما انتهى الرجل بدأ رحمة في الحديث مستنكرا ما أسماه (بتسيس) المساجد.. كما تحدث عن الحكام الطغاة ناقلا رؤية حزب المؤتمر الشعبي فأتى بفعل نهى عنه وأستنكره. هذه الحادثة التي تابعتها حضورا، أبانت عكست تأثير مقتل خليل (العاطفي) على عدد من الناس خاصة أعضاء المؤتمر الشعبي.. ولم تكن زيارة د. الترابي وأبنتيه معزين لأسرة خليل في حي عد حسين جنوب الخرطوم وبقائه هناك زهاء الساعة، إلا تأكيدا لهذا الارتباط.. نشير إلى أن حركة العدل والمساواة صُنِّفت على أنها الذراع العسكرية لحزب المؤتمر الشعبي، فيما كان خليل يعوّل على الترابي لكي يكون منبراً سياسيا في الخرطوم لمطالب حركته.. نعم تقديم العزاء واجب لكن لا أظن أن منسوبي المؤتمر الشعبي قيادة وأفرادا تنادوا معزين في ضحايا عملية أم درمان التي قادها خليل في مايو 2008م وأسماها بالذراع الطويلة.. عشرات الضحايا سقطوا نتيجة لتلك المغامرة التي دعمها بالكامل زعيم ليبيا السابق معمر القذافي. مقتل خليل لابد أن يكون مدخلا لمرحلة جديدة، عنوانها السلام.. لا أعتقد أنه من الحكمة أن تأخذ الدولة تصريحات جبريل إبراهيم الأخ غير الشقيق لخليل مأخذ الجد، فهي تصريحات مفهومة في مثل هذه الظروف العصيبة.. جبريل قال أنه (لن يكون هناك تفاوض بعد طريق القتل الذي سلكته الحكومة).. وهذا يجعل البعض يرجح بقاء خيار التصعيد العسكري قائماً لدى الحركة.. جبريل أكد كذلك إلتزام حركته بما جاء في ميثاق كاودا (إسقاط النظام في الخرطوم)، طالما كان الآخرون ملتزمون بالعهد (يقصد الحركات الأخرى الموقعة على الميثاق).. لابد أيضا أن تفهم تصريحات قادة الحركة بشأن طريقة مقتل قائدهم ودفنه في محاولة للتقليل من ما أعتبرته القوات المسلحة انجازا عسكريا، يدخل في باب التعويض النفسي لما أصاب الحركة في مقتل. السؤال المطروح من هو بديل خليل إبراهيم؟.. ليس من السهل التكهن بذلك لكن قبيلة خليل مثّلت الرافد الأول لحركته، والتي كانت كذلك في نظر البعض سبباً في إعاقة الحركة من الوصول إلى أهدافها.. كثيراً ما شعر غير المنتمين إلى تلك القبيلة بالغبن تجاه قيادة الحركة، بعدما حصرت المناصب العليا في بطن واحد من بطون القبيلة حيث تتحدر منها عائلة خليل.. بيد أن ذلك تسبّب في حالة التشظي التي عانت منها الحركة لسنوات وخروج قادة مؤثرين من دائرة الفعل في الحركة.. مواقف (التحدي) التي أعلنها جبريل في ظل مجرى الأحداث الطبيعي نحو السلام، فضلا عن حالة التذمر من حصر القيادة في أسرة واحدة، معطيات قد تبعد جبريل إبراهيم من قيادة الحركة.. عموما أعلنت الحركة مؤخرا تولي الطاهر الفكي رئيس المجلس التشريعي للحركة، رئاسة الحركة لمدة (60) يوماً، وخلال هذه المدة تنتخب حركة العدل والمساواة رئيسها الجديد خلفاً لخليل إبراهيم.. الرئيس الجديد المؤقت الجديد خريج جامعة الخرطوم كلية الطب، وابتعث لجامعة إدنبرة ببريطانيا للتخصص في الطب قبل قيام حكومة الرئيس البشير لكنه فشل في ذلك، ويتميز الفكي بعلاقات جيدة مع المنظمات اليهودية التي تتكفل بالكثير من منصرفاته، وسبق أن أعلن ردَّته عن الإسلام في ندوة عن اتفاقية السلام الشامل بجامعة أكسفورد في بريطانيا في مايو الماضي. لم يستفد خليل إبراهيم أو يعي الدورس والسياسي الحذق وربما السياسي العادي يستطيع أن يقرأ ويحلل الأحداث والتطورات المتعلقة بدارفور داخل وخارج السودان ويصل بكل بساطة إلى ما يجب فعله وقياس الأمور بمقياس العقل والمنطق.. أغرب مواقف الحركة إعلانها مطالبتها بحق تقرير المصير في دارفور وكردفان؟!.. سذاجة موقف الحركة ليس في المطالبة بحق تقرير المصير فحسب وإنما في اقحام منطقة كردفان في الأمر.. إن كانت حركة خليل حركة عنصرية تتمحور حول انتماء قائدها لقبيلة معينة فكيف تطرح نفسها كممثل لمنطقة دارفور دعك من منطقة كردفان؟!.. كذلك تعاملت حركة العدل والمساواة باستعلاء كبير جدا مع الحركات الدارفورية الأخرى ورفضت أن تشاركها في المفاوضات مع الحكومة لأنها في نظرها حركات بلا وزن وهي فقط التي يحق لها التفاوض باسم دارفور مع الحكومة.. إذا كان هذا حال الحركة مع الحركات الأخرى فيمكن استنتاج أن خليل يريد أن يقول أيضا أن أسرته لا قبيلته فحسب هي التي يحق لها أن تتحدث باسم أهل دارفور. المعارضة المسلحة في كل الدنيا لا يتم التعامل معها إلا بالحسم العسكري، ليس هناك من دولة عاقلة تتسامح مع عمل معارض مسلح.. كثير ممن تصدى للعمل السياسي في السودان وقع في خطيئة الخلط بين الدولة والحكومة فتستحيل الفواصل بين الاثنين إلى سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.