11 سبتمبر 2025
تسجيلأضحت إشكالية صناعة الوعي الاجتماعي وبناء الواقع من خلال وسائل الاتصال الجماهيري التي أصبحت تستحوذ على نسبة كبيرة من وقت الفرد في المجتمع من أهم المواضيع التي تحظى باهتمام النقاد والباحثين. هذه الوسائط أصبحت تفبرك الواقع وفق آليات معينة وأطر محددة لتحقيق أهداف مدروسة مسبقا، فعملية التنميط والقولبة تعتمد على الآليات و"الاتفاقيات" التي توظفها وسائل الاتصال الجماهيري للمحافظة على النظام والوضع الراهن وصناعة وعي اجتماعي يتناغم مع أيديولوجية وأهداف القوى السياسية والاقتصادية الفاعلة في المجتمع. أصبحت وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين تتميز بالصراع بين الوظائف السياسية والوظائف التجارية، وأصبح التركيز الأساسي يتمحور حول التسطيح والتهميش والثقافة الاستهلاكية عند المتلقي بهدف إدماج الجماهير في النسق الاستهلاكي كمستهلكين وليس كمشاركين في النظام السياسي. فالفاعلون السياسيون ووسائل الإعلام يفضلون جماهير مستهلكة مندمجة في النظام لا تحاول أو تجرؤ على المطالبة بالتغيير، وهذا ما يؤدي إلى انهيار الفضاء العام وانتشار الثقافة المعلبة. من جهة أخرى، أكدت الدراسات أنه في الوقت الذي زاد فيه عدد المؤسسات الإعلامية بأرقام كبيرة تراجع عدد الجمهور الذي بإمكانه التعبير عن رأيه وأفكاره في وسائل الإعلام، فالفضاء العام بحاجة إلى إعلام يوفر منابر التعبير والنقاش والحوار والاحتجاج والنقد والرأي والرأي الآخر، لكن الواقع يشير إلى غير ذلك تماما حيث أصبح من الصعب جدا على الجماهير العريضة في المجتمع أن تصل إلى وسائل الإعلام وتعبر عن همومها ومشكلاتها وطموحاتها، فالسوق الحرة للأفكار التي نادى بها جون ميلتون أصبحت جزءا من التاريخ وأصبحت تقبع في أدراج المتاحف. يرى نقاد الصناعة الإعلامية أن وسائل الإعلام لا تزودنا فقط بالمعلومات والقضايا والأحداث التي تجري من حولنا محليا وإقليميا وعالميا بل تزودنا كذلك بمنظور معين وبإطار محدد لتلقي هذه الأحداث وهذه القضايا وتفسيرها وتحليلها وفهمها. والسياق مهم جدا لأنه يعتبر المرحلة الأخيرة في فهم الحدث وتفسيره، وهذا يعني أن وسائل الإعلام تضع الأحداث والقضايا داخل سياقات وأطر خاصة ومحددة وفق آليات وأعراف متفق عليها ضمنيا في قاعات التحرير وفي وكالات الأنباء العالمية وإمبراطوريات الإعلام والاتصال. أما باقي ناقلات الأخبار عبر العالم سواء في جنوبه أو شرقه أو غربه فما هي إلا صناديق بريد تردد في معظم الأحيان ما تنقله وتوزعه كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية. لا تحدد لنا وسائل الإعلام ما نشاهده ونقرأه فقط، بل تحدد لنا كذلك كيف نقرأ الأحداث وكيف نفهمها وفي أي إطار نضعها لنفسرها ونحللها، فالأطر التي تضعها وتحددها وسائل الإعلام هي عبارة عن أنماط ثابتة مستمرة من العمليات المعرفية والسياقات التفسيرية للمعلومات التي تعمل على الانتقاء والتأكيد والاستبعاد والتي يقوم من خلالها صناع الخطاب الإعلامي بالتنظيم النمطي والمنهجي لمخرجات وسائل الإعلام.بالنسبة لرجال السياسة تعتبر وسائل الإعلام الوسيط الأساسي والاستراتيجي للوصول إلى الجماهير العريضة للتأثير فيها وتكوين وتشكيل الرأي العام الذي يتبنى آراءهم وأفكارهم ووجهات نظرهم وبذلك برامجهم، فالسياسي الناجح هو ذلك الذي يحسن التعامل مع وسائل الإعلام والذي يعرف كيف يمرر خطابه السياسي عبر وسائل الإعلام بلباقة وبمهنية عالية، فالعلاقة بين وسائل الإعلام والحياة السياسية تشكل عنصرا هاما من عناصر فهم الرهانات المرتبطة بتطور الديمقراطيات العصرية. تؤثر وسائل الإعلام في الحكام والمحكومين، فوسائل الإعلام تغير القوانين التقليدية للعبة الديمقراطية، فسمعة السياسي تحددها بدرجة كبيرة الصورة التي يكونها ويصنعها لنفسه من خلال وسائل الإعلام، هذه الصورة يجب أن تكون متناغمة ومتناسقة مع الصورة المقدمة والصورة التي تدركها الحشود والجماهير، فإدارة الصورة تعتبر ظاهرة رئيسية ومحورية في جعل الحياة السياسية ظاهرة إعلامية، أي تتناولها وتناقشها وسائل الإعلام باهتمام بالغ وبتركيز كبير. من جهة أخرى نلاحظ أن التغطية الإعلامية لنشاط السياسيين وعملهم اليومي تترك آثارا كبيرة على الجماهير والمتتبعين للفعل السياسي الذين يقومون بمتابعة نشاط السياسيين ومدى تطابق أقوالهم مع أفعالهم. وحسب ليبمان فإن الأخبار لا تعكس الحقيقة بل تفبرك الواقع، الأخبار والحقيقة ليسا الشيء نفسه، ولابد من التمييز بينهما، فوظيفة الأخبار هي الإشارة إلى حادثة، ووظيفة الحقيقة هي إظهار الحقائق المتستر عليها وربط الواحدة منها بالأخرى، ورسم صورة للحقيقة يستطيع الناس أن يتصرفوا بناء عليها. لا يتلقى الجمهور صورة كاملة في غالب الأحيان عن المشهد السياسي، بل يحصل بدلا عن ذلك على سلسلة منتقاة للغاية من الومضات أو اللمحات وتكون النتيجة في النهاية تشويه الواقع. وحسب والتر ليبمان هناك تضارب بين الديمقراطية والممارسة الإعلامية اليومية حيث إن وسائل الإعلام لا تقدر على تأدية وظيفة التنوير العام. لا تستطيع وسائط الإعلام تقديم الحقيقة بموضوعية لأن الحقيقة شخصية وتستوجب الكثير من الدقة والتمحيص والتفسير والتأكد، الأمر الذي لا تسمح به صناعة الأخبار التي تتطلب السرعة الكبيرة والمواعيد الدقيقة التي لا ترحم. فحسب والتر ليبمان، الجمهور لا يحصل على صورة كاملة ووافية وشاملة للمشهد السياسي، بل يتلقى بدلا من ذلك مجموعة أو سلسلة من الومضات أو اللمحات التي تفبرك هذا المشهد السياسي أكثر مما تعكسه. وبذلك يفبرك الواقع ويُقدم للرأي العام بالتناغم والتناسق مع مصالح القوى السياسية والاقتصادية في المجتمع. يستنتج ليبمان أن وسائل الإعلام تعيق الديمقراطية أكثر مما تخدمها لأن الديمقراطية تقوم على السوق الحرة للأفكار وعلى الرأي والرأي الآخر، الأمر الذي فشلت وتفشل وسائل الإعلام في تحقيقه في أرض الواقع. إن دراسة علاقة وسائل الإعلام بالسياسة تقودنا إلى مسألة علاقة تطور وسائل الاتصال بتشكيل الرأي العام، وإلى أي مدى تساهم وسائل الإعلام في إيجاد فضاء عام لمناقشة الأفكار والآراء والأطروحات من قبل الجميع؟ أم أن هناك قوى محدودة جدا تسيطر على الفضاء العام وتحتكره لنفسها لتمرير أفكارها ووجهات نظرها؟ ما هي العلاقة بين وسائل الإعلام واستطلاع الرأي العام والرأي العام؟ بالنسبة لبيار بورديو Pierre Bourdieu الرأي العام لا يوجد وأن الرأي العام الذي يدعيه أصحاب مراكز سبر الآراء والصحفيون ما هو إلا إشكاليات متعلقة بمصالح سياسية تقوم أساسا على عدد معين من المسلمات المغلوطة والخاطئة. أولا باستطاعة أي شخص أن يكوّن رأيا حول موضوع، ثانيا كل الآراء تكتسي نفس القيمة، وأن هناك تفاهما حول الأسئلة التي تستحق الطرح، فنتائج سبر الآراء التي تبثها وتنشرها وسائل الإعلام ما هي في حقيقة الأمر سوى فبركة اصطناعية لمنتج تم استخراجه من حسابات إحصائية لجمع آراء أشخاص لفرض وهم اسمه الرأي العام. تثير أطروحة بورديو تساؤلا كبيرا جدا وخطيرا في الوقت نفسه، يتعلق بالمصداقية العلمية لاستطلاعات الرأي العام وبثباتها وبمفهوم الرأي العام كمصطلح وكظاهرة اجتماعية وسياسية. أصبحت وسائل الإعلام، على حد قول بورديو وشامبان، محكمة الرأي حيث أصبح الواقع يتحدد ويتلخص فيما تنقله وسائل الإعلام وتناقشه وتحلله وفق ما يراه الصحفيون ومحترفو صناعة الرأي العام صالحا ومؤهلا لأن ينقل إلى عيون ومسامع القراء والمشاهدين والمستمعين. وحسب نظرية تحديد الأولويات Agenda Setting فإن وسائل الإعلام من جرائد ومجلات ومحطات إذاعية وتلفزيونية تحدد للجمهور ماذا يقرأ ويسمع ويشاهد ليس هذا فقط وإنما تحدد له كذلك كيف ينظر ويحلل وفي أي إطار يدرك ويفهم الأحداث والوقائع التي تُقدم له.