19 سبتمبر 2025
تسجيليجمع المحللون السياسيون التونسيون أن ما حدث يوم الأحد 26 أكتوبر 2014، يعتبر زلزالاً سياسياً كبيراً ضرب بقوة الخارطة السياسية للأحزاب التونسية بعد هذه الانتخابات التشريعية التي اتسمت بـ"الشفافية" و"الصدقية"، بوصفها أول انتخابات حرة وديموقراطية في تاريخ تونس. فقد عزّز الشعب التونسي التزامه الديموقراطي بفضل انتخابات ذات صدقية وشفافة، مكنت التونسيين من مختلف الحساسيات السياسية، من التصويت بحريّة لمجلس تشريعي وفقا لأول دستور ديموقراطي في البلاد. وأظهرت نتائج الانتخابات فوز"حزب نداء تونس" العلماني بنحو 85 مقعداً من أصل 217 مقعدا، وهو الحزب الذي احتل المشهد السياسي التونسي منذ أكثر من سنتين، لا سيما بعد اعتصام باردو في صيف 2013. ويعتبر الباجي قائد السبسي (87 عاماً)، مؤسس حزب "نداء تونس" (يمين الوسط) الفائز بالانتخابات التشريعية التونسية محامياً وسياسياً تونسياً مخضرماً. لقد صوت الشعب التونسي بقوة لمصلحة "حزب نداء تونس" لاعتقاده أنه الحزب الأوفر حظاً أمام حركة النهضة، ولهذا السبب استفاد "حزب نداء تونس" من "الانتخاب المفيد" حتى لا يتم تشتيت الأصوات، ومن اصطفاف كل الطبقة المتوسطة التونسية وراءه، حيث أرادت هذه الطبقة أن تصوت لمصلحة الحزب الذي يمتلك من القوة لكي يحافظ على نموذج المجتمع التونسي الوسطي والمعتدل والمنفتح على الحداثة الغربية، كما كان في عهد النظام السابق. فصوتت هذه الطبقة المتوسطة التي تمثل الأكثرية في المجتمع التونسي بقوة له، لأنها أرادت أن تتحرر من حكم الترويكا، وتزيح حركة النهضة من الحكم، وتقطع عليها طريق العودة نهائيا إلى السلطة عبر هذه الانتخابات. وهذا ما يفسر لنا أيضا أن بعض الشرائح هذه الطبقة التي كانت تصوت تقليديا لمصلحة أحزاب وسط اليسار، مثل الحزب الجمهوري، وحزب المسار الديمقراطي،غيرت هذه المرة بوصلتها وأعطت أصواتها بالكامل لمصلحة حزب نداء تونس، وعاقبت في الوقت عينه كل الأحزاب التي كانت حليفة لـ"حزب نداء تونس"، والتي كانت مجتمعة داخل "الاتحاد من أجل تونس"، فهي لم تعد تقبل بأنصاف المواقف، حيث اندثرت هذه الأحزاب الديمقراطية الوسطية الحليفة للنداء من المشهد السياسي التونسي عبر هزيمتها الساحقة في هذه الانتخابات. فالحزب الجمهوري الذي يتزعمه السيد نجيب الشابي لم يفز سوى بمقعد يتيم، بعد أن كان له 16 مقعداً، وحزب المسار الديمقراطي لم يفز بأي مقعد، بعد أن كان له 10 نواب في المجلس التأسيسي السابق. واستفاد "حزب نداء تونس" من الدور الكبير للإعلام التونسي المنحاز بقوة له، والذي عبد له الطريق لكي يحتل طليعة المشهد السياسي التونسي طيلة العامين الماضيين، ويغرس في ذهنية الشعب التونسي صورة معينة مفادها أن "حزب نداء تونس" هو الحزب الوحيد القادر على هزيمة حركة النهضة، فتضخمت أعداد الوافدين إلى الانضمام للحزب المتشكل حديثاً. لكن هذا الفوز الكبير لحزب نداء تونس، ما كان ليحصل، لو لم يتوافر عاملان أساسيان في هذا الفوز. الأول: دور المال السياسي الفاسد الذي أسهم في شراء ذمم الناخبين، لا سيما في الأرياف، والأحياء الفقيرة من المدن، و الثاني: الدور القوي الذي لعبه "حزب التجمع" المنحل بقرار قضائي في مارس 2011، حيث أن الماكينة الحزبية و الانتخابية لحزب التجمع انضمت بقوة للعمل لمصلحة "حزب نداء تونس"، ووفرت له الأرضية التنظيمية، والخبرات الضرورية، و الدعم اللوجيستي لتحقيق هذا الفوز الانتخابي، إضافة إلى أن الأحزاب الدستورية المنبثقة من حزب التجمع، أعطت الضوء الأخضر لأنصارها للتصويت لـ"حزب نداء تونس"، ودعمه انتخابيا تجنبا لتشتيت الأصوات، فاكتسح هذا الأخير الشمال والساحل بدعم قوي من أنصار و منخرطي الأحزاب الدستورية ذات المرجعية التجمعية. وهكذا عاد "التجمعيون"، الذين أقصوا من الحياة السياسية بعد الثورة، لكي يعودوا من جديد عبر بوابة "حزب نداء تونس"، والشرعية الانتخابية. ويضم حزب "نداء تونس" نقابيين ويساريين ومنتمين سابقين إلى حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم في عهد بن علي الذي حكم تونس بين 1987 و2011. وتقول المعارضة القومية الديمقراطية، واليسارية، إن "حزب نداء تونس"، "تجمع جديد" وإن قائد السبسي الذي تولى رئاسة البرلمان بين 1990 و1991 من "أزلام" نظام بن علي. كما تحذر من عودة "الاستبداد" إلى تونس إن وصل "حزب نداء تونس" إلى الحكم، والمحافظة على نهج الليبرالية الرأسمالية المتوحشة التي كانت سائدة في العهد السابق، مما يؤكد أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تونس منذ بداية الثورة سوف تستمر من دون حل، ما لم تغير تونس من خياراتها الاقتصادية والاجتماعية نحو القطع مع نهج التبعية، والعمل نحو إقامة نموذج من التنمية يلبي مصالح وتطلعات الطبقات والفئات الشعبية . واحتلت حركة النهضة المرتبة الثانية بحصولها على 69 مقعداً، أي بخسارتها حوالي 20 مقعدا بالقياس إلى نتيجة انتخابات 2011. وكانت أكبر نسبة حققتها حركة النهضة هي في الجنوب معقلها التاريخي. ورغم أن حركة النهضة خسرت عدداً كبيراً من المقاعد، فإنها حافظت على نصيبها الانتخابي، وعلى تموقعها ومكانتها ضمن الأحزاب الكبرى في البلاد، باحتلالها المرتبة الثانية. ورغم أن حركة النهضة فقدت أكثر من ثلث قاعدتها الانتخابية. لقد ضرب هذا الزلزال الانتخابي في تونس، كل الأحزاب التي كانت حليفة لحركة النهضة في إطار الترويكا السابقة، التي حكمت تونس منذ بداية 2012 و لغاية بداية 2014، فحصل حزب المؤتمر الذي يتزعمه الرئيس المنصف المرزوقي على 4 مقاعد في هذه الانتخابات، بينما حصل على 29 مقعدا في انتخابات 2011، وحصل حزب التكتل الذي يتزعمه رئيس المجلس الوطني التأسيسي الدكتور مصطفى بن جعفر، على مقعد يتيم بعد أن كان له 21 مقعدا في 2011، واندثرت الأحزاب الأخرى التي كانت تؤيد النهضة مثل حزب وفاء، وحزب التنمية والإصلاح وتيار المحبة، وهي كلها أحزاب عاقبها الشعب التونسي بسبب انتهاجها سياسة الإقصاء والثأر، والإدعاء بأنها أحزاب تدافع عن الثورة، وهي لم تشارك فيها، إضافة إلى تقسيمها التونسيين بين جماعة ما قبل الثورة، وجماعة ما بعدها. واحتل حزب الاتحاد الوطني الحر الذي يتزعمه الميلياردير التونسي سليم الرياحي رئيس فريق النادي الإفريقي لكرة القدم، المرتبة الثالثة بحصوله على 17 مقعدا، وهو حزب من دون هوية سياسية أو فكرية، لكنه حزب شعبوي يؤمن بالليبرالية الاقتصادية، وهو ما سيشكل بيضة القبان في المشهد السياسي التونسي، عند تشكيل الحكومة المقبلة، لأنه سيتحكم بمفاتيح التحالف القادم، وسيرفع من سقف مطالبه، وهو من شأنه أن يدفع "حزب نداء تونس" في نهاية المطاف إلى التحالف مع النهضة في إطار حكومة تعايش، وهو سيناريو مستبعد، لكنه غير مستحيل. وتأتي الجبهة الشعبية بزعامة السيد حمه الهمامي المرتبة الرابعة بحصولها على 15 مقعدا، وهو أمر منتظر ولم يفاجىء أحداً من متابعي الشأن السياسي التونسي. فالجبهة الشعبية التي تشكلت على أساس أن تصبح القوة الثالثة القادرة على تكسير هذا الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة وحزب نداء تونس، لم تقدم البديل الثوري للنظام الديكتاتوري السابق، وأخفقت في تحقيق التوافق بين الجماهير والقوى الوطنية والديمقراطية من أجل بناء نظام ديمقراطي بديل، بالتالي أخفقت في بناء كتلة تاريخية تدافع عن الثورة، وتعمل إلى التوصل لأهداف وطنية جامعة على قاعدة الديموقراطية. واحتل حزب آفاق تونس الليبرالي جدا المرتبة الخامسة بحصوله على 8 مقاعد، حيث تقوده قيادة شابة ومتعلمة، ومثقفة، وتتقن التعامل مع وسائل الاتصال الجماهيري المتطورة. السؤال الذي يطرحه التونسيون بعد هذا الزلزال الانتخابي، من سيحكم تونس؟ من المنطقي أن الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد (وهو في هذه الحالة حزب نداء تونس) هو المعني مباشرة بتشكيل ائتلاف ليحصل على الأغلبية (109مقاعد من 217). لكن الحزب له 85 مقعدا فقط، فهو مطالب بالتحالف مع أحزاب أخرى للحصول على 24 مقعدا أو أكثر لكي يحصل على الأغلبية في البرلمان المقبل.