15 سبتمبر 2025
تسجيلأسرانا هم شهداؤنا الأحياء وهم في كل أمة مجد وأعظمها، وعليه فتحرير أسرى فلسطين أيا كانت صفتهم أو عناوينهم السياسية أو الفكرية هو أمر لا يعتبر فيه الفرح بالنسبة لكل وطني شريف إلا الحد الأدنى في سلم الحقوق الوطنية والاحترام.. وحق لهم ألا تنام على ضيمهم أمتهم لساعة واحدة دون تعمل على إكراه العدو على تحريرهم.. كما فعلت وتفعل المقاومة - وفي الذؤابة منها حماس - كل الوقت (صفقة شاليط دليل على ذلك، وأخيرا قبل أسبوعين اكتشف العدو نفقا في غزة متجها لفلسطين الـ 48 واعترفت به حماس فالنهج جدي والمحاولة بالتأكيد لن تكون الأخيرة). مع ذلك ومع كل الاعتذار لأهالي الأسرى وبعيدا عن أية حساسيات سياسية أو حزبية.. ليس شعبنا من السذاجة والتغفل كي يكتفي بالفرح تجاه إطلاق هؤلاء الأسرى أو تأخذه نشوة العاطفة لتقبل فكرة أن إطلاقهم كان إنجازا رسميا باهرا للسلطة وللمفاوضات كما يحاول متحدثوها الزعم بعيدا عن فهم ورصد الأثمان والظروف التي يأتي فيها.. وأقول: لنتفق في البداية على أن العدو وكما خبرناه وخبره الشعب الفلسطيني ويعرفه العالم ليس من الأريحية ولا الأخلاقية ليفرج عن هؤلاء الأسرى مجانا؛ بالأخص عندما يكونون من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات الذين تتعلق قضاياهم بما يسميه "دم إسرائيليين"، ولنتفق أيضا على أن السلطة ورغم كل الاتفاقات وضامنيها وشهودها وصيغها لا تملك على العدو بها استحقاقا مقدسا "فقد أعلن ومنذ بداية المفاوضات قبل عشرين سنة أنه ليست لديه مع الفلسطينيين مقدسات.. ثم لنتفق أخيرا على أن السلطة وباتفاق العقلاء ومن يفهمون أبجديات السياسة لا تملك ضغطا ولا "عرطا" على العدو لا بالقوة على ولا بالعلاقات ولا بالحرد ولا بالوداد.. وأرجو أن لا ننسى أنها كسرت البندقية منذ 82 من القرن الماضي، وأنها باتت منذ يوم ذاك تتقلب في المصالح والمنافع الشخصية والحزبية والحسابات الصغيرة التي يوفرها لها الاحتلال كمقاول مياومة.. هذه الحقائق لا بد أن نستحضرها اليوم وكلما قدم العدو هدية قد تبدو مجانية للسلطة.. وهي تطرح سؤالا أجده في غاية الجدية والمنطقية.. لم هذا الإفراج الآن إذن؟ بالأخص إذا كنا نتحدث عن أسرى ما قبل أوسلو الذين تأخر الإفراج عنهم عشرين سنة على الأقل، وكنا نتحدث عن أزمة داخلية لدى العدو في سياق رفض المتطرفين لهذه الخطوة. أعتقد أن هذه الصفقة تأتي لهدف محدد وواحد فقط وهي تتناسب معه حجما ودلالة.. هو تخدير المشاعر الفلسطينية والالتفاف على حالة الاحتقان السياسي والثوري الذي بدأ يتهيأ على الساحة الفلسطينية ويشبه إلى حد بعيد لحظات انطلاق انتفاضة الأقصى المجيدة. من مؤشرات حالة الاحتقان هذه أنها كثيرا ما تحدث وكتب عنها في الفترة الأخيرة قادة وكتّاب الأعمدة الرئيسة في صحف العدو.. أما مظاهرها وأسبابها فكثيرة ومتراكمة منها ؛ اعتداءات كبار الحاخامين اليهود المتزايدة على المسجد الأقصى، وإعلان حكومة العدو عن مشاريع بناء آلاف الوحدات الاستيطانية، وقيام المستوطنين والتنظيمات اليهودية المختلفة بأعمال إرهابية متوالية لترويع المواطنين، وحملات الاعتقالات الجديدة التي يتعرض لها المقاومون وتدان بالسكوت عليها وبالتنسيق للقيام بها السلطة.. إضافة لما يتوارد ويتواتر من أخبار وتصريحات حول فشل الانتخابات حتى الآن.. (كشف القيادي الفلسطيني اليساري وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمقرب من قيادة فتح - تيسير خالد – أن الاحتلال لم يتقدم بأية أفكار ملموسة بعد ثلاثة أشهر من بدء المفاوضات، وأنه يجري الحديث الآن عن إعلان مبادئ أو اتفاق إطار يتم تنفيذه خلال ثلاث سنوات على غرار اتفاق أوسلو). لذلك ليس من اكتشاف الذرة ولا من اختراع العجلة فهم أن هناك محاولة للالتفاف على هذا الاحتقان وتخفيته ومداراته ويراد شغل الإعلام والعناوين الفلسطينية عنه بزغاريد أمهات الأسرى وزوجاتهم بهذه الملهاة فيما القدس والضفة تهود وفيما مسار المفاوضات مغلق وفيما غزة تموت تحت الحصار. تذكرنا هذه الملهاة بعام 88 الماضي حيث أعلنت القيادة الفلسطينية في اجتماع المجلس الوطني بالجزائر الاعتراف بإسرائيل وبقراري مجلس الأمن 242، 338 مترافقا مع إعلان الدولة الفلسطينية في المنفى لتنطلق الزغاريد المجهزة مسبقا ولتتغير كل العناوين السياسية لتلك المرحلة. صحيح أنه ليس يليق أن يزهد أحد في القيمة المعنوية لأي إفراج عن أسير حرية في أي بقعة على الأرض بصرف النظر عن المدة المتبقية له وعن انتمائه وعن عدد المفرج عنهم.. ولكن عندما تنحو القيادة الفلسطينية لوصف هذا الإفراج بالإنجاز السياسي الباهر والحصري لها، وعندما تحاول به تسويق منحى المفاوضات العبثية التي ضيعت صيفة كل الثوابت، فإن من حقنا حينئذ وفي سبيل وضع الأمور في نصابها وردها إلى حقيقتها وموضوعيتها أن نسأل : كم عدد أو كم نسبة الذين سيفرج عنهم بهده الصفقة مقارنا بالذين سيظلون يرسفون في أغلال الأسر والإهانة وراءهم؟ وأن نسأل وبدون حرج أو تردد عن الثمن؟ نسأل عن الثمن في ظل ما نشرته وسائل الإعلام من حديث لوزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" في باريس أمام الوفد العربي الذي ضم (13) وزيرا في باريس وقال فيه إن الرئيس عباس "لم يشترط وقف الاستيطان لاستئناف المفاوضات! وإنما طالب بإطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين! وتسديد ديون السلطة والبالغة 600 مليون دولار"!! آخر القول: رغم أن الفرح بالإفراج عن أي أسير هو شعور وطني بمضامين ثورية وأخلاقية وحضارية عالية.. إلا أنه يكون مرفوضا ومدانا عندما إذا صار ثمنه الموافقة على الاستيطان والدوران في ساقية مفاوضات عبثية تبدد الثوابت الوطنية، وإذا كان شرطه أن يتعهد الأسير بالخروج من المقاومة، وإذا تحول إلى ملهاة تغطي الإفشال والتنازلات.