17 سبتمبر 2025
تسجيليبدو أن التجربة التونسية ستبقى، بصفتها أولى الثورات أو الانتفاضات، البوصلة التي تدل إلى معالم التغيير، فالنقاشات الهادئة والمحمومة التي أعقبت سقوط النظام السابق، والإجراءات العديدة التي اتخذت للخروج الفعلي من ذلك النظام، استطاعت أيضا أن تعطي لتونس أسبقية في تحديد الخيارات لدفع المرحلة الانتقالية نحو توليد النظام المقبل. وها هي الانتخابات الأولى الحرة منذ عقود تجرى على نحو استحق كل الترحيب والإشادة داخلياً وخارجياً، وهي بذلك شكلت إنجازاً مهماً شارك فيه الناخبون بكثافة، مما أضفى على الاقتراع شرعية شعبية لا غبار عليها. أما نتائج الانتخابات فأخرجت مشهداً جديداً بكل تفاصيله وخريطة سياسية تعكس التعددية الموجودة في البلاد. فالحزب الحاكم السابق، التجمع الدستوري، تفتت وتوزع على مجموعة أحزاب صغيرة أو على جماعات فضلت أن تساند قوى سياسية أخرى من وراء الكواليس. ولا شك أن الفوز الكبير لحزب "النهضة" يمثل الرسالة البليغة التي أراد الناخب إطلاقها، كذلك بإبرازها حزبي "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"العريضة الشعبية" الجديدين على حساب أحزاب المعارضة التقليدية وفي طليعتها "الديمقراطي التقدمي" و"التكتل الديمقراطي"، فضلاً عن "القطب الحداثي" الذي ضم ائتلافاً حول الحزب الشيوعي بصيغته الجديدة. من الواضح أن الناخبين اختاروا مكافأة الذين اضطهدهم النظام السابق، بل الرهان عليهم لطي صفحة زين العابدين بن علي، إذ أن حزب "النهضة" لم يكن محظوراً فحسب وإنما كان جميع قادته في السجن وكان زعيمه راشد الغنوشي في المنفى القسري، وكذلك زعيم "المؤتمر" منصف المرزوقي الذي تأسس حزبه في المنفى وما لبث أن تبلور وجوده بعد وتمكن من تحصيل موقع متقدم في أول اختبار انتخابي. صحيح أن الناخبين لم يقصوا أحزاب المعارضة التقليدية، التي عانت بدورها من ممارسات النظام السابق وتضييقاته، إلا أنهم أرادوا منح حزب "النهضة" فرصة واضحة لامتحان خطابه وبرنامجه وخياراته كافة. وقد حصل هذا الحزب على كامل الأصوات التي كان يمكن أن ينالها في أي اقتراع حر ونزيه، لكنه حصل أيضاً على نسبة كبيرة من تأييد من لا يعتبرون أنفسهم "إسلاميين"، وإنما مجرد تونسيين يطمحون إلى تغيير حقيقي يقطع مع نهج الفساد الذي زيّف إرادتهم بمقدار ما نخر الاقتصاد والتنمية وعطّل مفاعليهما على الحياة العامة ومستوى المعيشة. ويشير قبول العواصم الغربية لصعود الإسلاميين في تونس إلى اعتراف بحقائق المجتمع، فهذا الصعود صنعته عملياً الأنظمة الاستبدادية التي دأب الغرب على دعمها حتى في أسوأ ممارساتها القمعية وفي احتقارها كرامة الشعوب وحريتها، لكن "النهضة" تبنى، في خطاب الفوز وقبله، رسالة هادئة وبعيدة تماما عن الثأرية، معتبراً أن الصراع كان أولاً وأخيراً مع نظام دكتاتوري سخَّر العلاقات الخارجية للدولة للتغطية على نزواته الأمنية والسياسية، كما أنه أكد انفتاحه الداخلي على مختلف القوى السياسية، أي أنه يريد أن يتصرف كقوة هادئة ومطمئنة، وبالتالي غير مضطرة للاستئثار بالحكم. فمن جهة أوصلت الثورة "النهضة" إلى المكانة التي إلى شهور خلت، لم تكن تحلم بها أو تصدق أنها ممكنة، ومن جهة أخرى يبدو أن أعوام الاضطهاد الطويلة قد أنضجت فكر "النهضة" وخياراتها في التعامل مع الشأن السياسي، فضلا عن الشأن الاجتماعي، إذ كان لافتا أن الغنوشي حرص بعد عودته من المنفى، أن يضع بين أولوياته أن يطمئن الأوساط المالية والاقتصادية انطلاقا من إدراكه أن أي مشروع للحكم لا يمكن أن يستقيم إلا في ظل اقتصاد فاعل ومتناغم مع الإصلاح السياسي. لعل ما حتم على "النهضة" وعلى الأحزاب الأخرى، هذا السلوك الرزين، أن الدولة والجيش والمؤسسات خرجت من الثورة سليمة ومستعدة لا ستيعاب أي تغيير حتى لو كان إلى حد ما "انقلابيا" يلغي حزباً حاكماً منذ عقود ويدفع إلى المواجهة بنقيض حتى لو كان مصنفاً "إسلامياً". والأمر الآخر أن المجتمع نفسه نفض عنه الأمراض التي زرعها العهد الاستبدادي في أرجائه، ودخل سريعاً في ذهنية عدم تكرار ما حصل وعدم التسامح في أي توجيه مع أي نوع من أنواع الحكم الفردي والسلطة الموغلة في الظلم والقهر. وخلال الشهور الماضية برهن الشعب إلى أي حد يريد لوعيه أن يذهب بعيداً في استشراف مستقبله سواء في ما يتعلق بنمط الحكم أو بمستوى معيشته وتمسكه بمجرياته. انطلاقاً من ذلك، كان على أي حزب سياسي يسعى إلى دور أن يدرك عمق الذهنية الجديدة التي بلغها البلد، ومن الواضح أن حزب "النهضة"، المعتدل تاريخيا وتقليديا، أجرى مراجعة شاملة لفكره وخطابه وآليات عمله، بل أخذ علماً وأخذ في الاعتبار المزاج العام للشعب التونسي الذي يعتز بمدنيته وتوقه إلى دولة القانون والديمقراطية. لذلك طرح "النهضة" ما سماه "مشروعا حضاريا" وهو يعرف أن الجميع في الداخل والخارج يراقبه ويترقبه، كما يعرف أن تونس محكومة بالانفتاح على العالم، ولعل الحدث الليبي المستجد قد رتب عليها مسؤوليات إضافية، أمنية وسياسية،إذ أن التداخل التونسي-الليبي سيكون محورياً في المرحلة المقبلة لمنع تحوّل التغيير الدموي في ليبيا كابوسا إقليميا ودوليا. إذا بقي "النهضة" مطابقاً لخطابه الحالي، بأمانة وشفافية وأريحية، فإنه سيكون مؤهلاً لإنتاج "نموذج تركي" خاص لتعايش الديمقراطية مع الإسلام في تونس، والأكيد أن نموذجا كهذا سيكون موحيا وملهماً على المستويين العربي والإسلامي، وقد أعطى "النهضة" حتى الآن إشارات عدة إلى أنه يملك مثل هذا التصور، وستكون صياغة الدستور الجديد فرصته لاثبات القول بالفعل، جنباً إلى جنب مع ممارسته في العمل الحكومي وإدارة العلاقة مع القوى السياسية الأخرى، بديهي أن مسؤولية ضخمة باتت على عاتقه، ونجاحه مرشح للتعميم بمقدار ما أن فشله سيخيّب الآمال، ولعله يعرف أن "النموذج التونسي" المؤمل به لا يواجه وطأة العسكر كما كانت الحال مع "النموذج التركي"، وإنما يواجه تحدياً أكبر يتمثل في التعامل مع تعددية المجتمع وجعلها طاقة وغنى لتونس الدولة والطموح.