31 أكتوبر 2025

تسجيل

الارتقاء بالقلب واللسان.. علمٌ وفن

31 أغسطس 2017

في يوم عظيم كيوم عرفة، لا شك أن المرء المسلم يبذل جهده، أو هكذا المفترض والأصل في المسلم، لأجل الارتقاء الإيماني فيه واستثمار ما في هذا اليوم من فرص ثمينة واقتناص الجوائز الموعود بها المسلم في آخرته، والتي أعدها الخالق عز وجل لهم، سواء من هم الآن على صعيد عرفات، أو غيرهم ينتشرون في أرجاء هذا الكوكب المعمور.. ولقد آثرت أن أكتب اليوم مقالًا ضمن سياق استثمار الأوقات بالنافع المفيد، وآثرت التوقف عن موضوعات السياسة بعض الوقت، فلكل مقام مقال. يُحكى أن واعظًا دخل على ملك، وقال: إني سأعظك وأغلظ عليك! قال له الملك، وكان أفقه من الواعظ: ولم الغلظة؟ فقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني. أرسل موسى إلى فرعون وطلب منه اللين في القول، فكان رد الملك الواعي، مفحمًا ومربكًا للواعظ، الذي يبدو أنه كان قليل علم، وهي المشكلة المتكررة في كل زمان ومكان عند كثير من الوعاظ.. وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا خير مثال. حيث أراد أن يتوب ذاك القاتل عن جرائمه السابقة، فذهب إلى أحد الوعاظ وسأله إن كانت له توبة، فكانت إجابته غير سارة للقاتل وغير حميدة للواعظ، حيث أجهز القاتل عليه وصار الواعظ المقتول رقم مائة! ذهب القاتل إلى فقيه إحدى القرى وأعاد عليه التساؤل السابق، فأجب بنعم، لكن بشرط أن يغير قريته ويرحل عنها، ففي تغيير البيئة المحيطة أحيانًا يكون فيه الحل. فما كان من قاتل المائة إلا ورحل عن قريته يبتغي بيئة جديدة وفي نيته التوبة، ومات في منتصف الطريق. فجاءت ملائكة العذاب وفي الوقت نفسه جاءت ملائكة الرحمة، واختصم الفريقان أيهما يتولى أمر القاتل، فأوحى الله إلى الأرض أن تُقترب القرية الجديدة من موقع وفاة القاتل، فكان بالتالي هو أقرب إلى الخير، فتولت ملائكة الرحمة أمره ونجا بفضل الله.. وهكذا يفعل العلم. إذ ليس كل من تمظهر بمظاهر الدين يُسمع له ويُنصت إليه، لكن هذا الإنصات يستحقه بالضرورة، كل من له علم من الكتاب، صادق مع الله قبل الناس. عودة مرة أخرى لقصة الواعظ والملك، الذي ذكر للواعظ قوله تعالى (فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى)، لنلاحظ أن الآية الكريمة دليل واضح على ما للكلم الطيب من تأثير عميق بليغ على النفس، مهما كانت متجبرة أو صلبة قاسية. وأحسبُ أنه لم يكن يوجد يومها، قلبٌ أقسى من قلب فرعون، ولكن مع ذلك طلب الله من موسى أن يكون لينًا معه، فلعله يتأثر ويرق قلبه بعض الشيء. فإذا كان هذا هو نهج الكلام مع فرعون، صاحب القلب القاسي، فكيف بمن هو أقل منه بكثير؟ لا شك أن القول اللين الهادئ الرزين سيؤثر بشكل فاعل سريع. قال الفضيل بن عياض، أو عابد الحرمين، وهو ممن عاش في القرن الثاني الهجري: "حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك! قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: إن صديقك إذا ذُكِرتَ بين يديه قال: عافاه الله، وعدوك إذا ذُكِرت بين يديه يغتابك الليل والنهار، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك، فلا ترضَ إذا ذُكِر بين يديك أن تقول: اللهم أهلكه.. لا، بل ادعُ الله: اللهم أصلحه.. اللهم راجع به، ويكون الله معطيك أجر ما دعوت به، فإنه من قال لرجل: اللهم أهلكه، فقد أعطى الشيطان سؤاله، لأن الشيطان إنما يدور على هلاك الخلق". كثيرون يفشلون في الوصول إلى الآخرين وتوصيل ما بأنفسهم إلى الناس من رسائل وقيم ومعان، والسبب في ذلك هو عدم التوفيق في استخدام ما بنفوسهم من كلمات ومعان بالصورة المثلى والمؤثرة. تراهم يُخرجون الكلمات من صدورهم بلا روح أو حرارة العاطفة الإنسانية، حيث تخرج باردة باهتة، لا لون لها أو طعم، وبالتالي لن تجد آذانًا صاغية أو قلوبًا واعية. الله عز وجل يدعو عباده أن يتجملوا في القول، ويختاروا الأطيب من العبارات والكلمات.. (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن). هذا هو ما نسميه بحلاوة اللسان، التي هي، وإن كانت هبة من الله، إلا أنها تبقى كذلك مهارة، يمكن اكتسابها بالتدريب والمثابرة عليها، شأنها شأن أي مهارة مكتسبة لدى البشر، فإن جادلت فليكن بالحسنى، وإن وعظت أو مدحت فقل الأفضل والأجمل من الأقوال والعبارات، ولكن بالحق، لا تجامل ولا تنافـق ولا تداهـن. أظهر مهاراتك في إبراز القول اللين، وتفنن وأبدع في تجميل الأقوال كي تنفذ مباشرة إلى القلوب قبل الآذان. ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، القدوة الطيبة والحسنة في هذا المجال. واقرأوا سيرته العطرة إن شئتم. إن من أساسيات اكتساب هذه المهارة، اختيار الكلمات ذات الجرس الموسيقي، أو التي تحمل في معانيها، الطيبة وخفة الروح، فإن استخدام الكلمات التي تحمل أكثر من معنى ومغزى، من شأنه في بعض الأحيان، إفساد الكثير من الأمور والعلاقات، حتى وإن كانت النيات صالحة، لا يُراد منها غير إصلاح أو كسب ود. أساتذة فن الخطابة يرددون هذا الأمر بكثرة، ويوصون بها تلامذتهم، وأن المهم ليس في إلقاء الكلمات، بقدر إخراجها من الفم. أي الطريقة أو الكيفية التي تقول بها وتستخدمها لإيصال كلماتك إلى قلوب المستمعين قبل آذانهم. لنكن في ختام هذا الحديث كالنحلة كما في الحديث الشريف (مثل المؤمن مثل النحلة. إن أكلت، أكلت طيبًا، وإن وضعت، وضعت طيبًا. وإن وقعت على عود نخر لم تكسره..). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.