31 أكتوبر 2025

تسجيل

التعامل مع النظام الدولي بين (الواقعية) و(العجز)

31 مايو 2015

ثمة من يحاولُ، بإلحاح، تخفيف وهج شرارة التغيير الإيجابي الذي بعث الأمل في قلوب الكثيرين خلال الأشهر الماضية. يجري هذا بطرق عديدة، منها ما تنطبق عليه مقولة "كلمة حقٍ يُرادُ بها باطل"، حين يتم التأكيد في هذا الإطار على ضرورة، وأولوية، وأهمية، أن يكون العربُ (واقعيين)، خاصةً في معرض التعامل مع النظام الدولي..صحيح: كنّا، ولا زلنا، كعرب، بعيدين عن الواقعية في أغلب شؤوننا. وسواء تعلقَ الأمر بحياتنا كأفراد أو كجماعة بشرية، فإن المثاليات والأوهام والأماني تُشكّل جزءاً كبيراً من منظومتنا العقلية والفكرية والثقافية. وكلمة (الحسابات) التي تُشكلُ هاجساً للآخرين، هي آخرُ ما يرد في خواطرنا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى والحساسة المتعلقة بحاضرنا ومستقبلنا.صحيحٌ أيضاً أن ندعو لتُصبح (الواقعية) محوراً من محاور حياتنا الفكرية والعملية، على جميع المستويات، عامةً ومثقفين، أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، وفي جميع المجالات، وبشكلٍ خاص في المجال السياسي، وبشكل أخص عندما يتعلق الأمر بالتوازنات الإقليمية والعالمية..لكن كل ما سبق يجب أن يكون مبنياً على تحريرٍ صارمٍ لمعاني ومقتضيات وشروط مصطلح (الواقعية). لأن هذا التحرير هو ما سيخرجنا من المأزق (الوجودي) الذي نجد أنفسنا فيه كعرب عند التعامل مع ذلك المصطلح، خاصة في مثل هذه الظروف الاستثنائية.فالواقعية مصطلحٌ ينبعُ أصلاً من الصّلة الوثيقة بـ (الواقع)، بكلّ مقوّماته وعناصره وأبعاده ومداخله. وأن تكون واقعياً يعني أولاً، وقبل كل شيء، أن تَفهمَ كل تلك المقومات والعناصر والأبعاد والمداخل. ثم يعني أن تبذل كل جهدك و(تستفرغ الوسع) في امتلاك (أقصى) الشروط، وكل الأوراق، التي تسمح لك بالتعامل مع ذلك الواقع. ثم يعني أخيراً أن تدرك (الحدود) التي لا يمكن لك (فعلاً) تجاوزُها.بل إن من (الواقعية) أيضاً ألا تقف عند الحدود.. بسلبيةٍ بالغة واستسلامٍ مطلق، وإنما بتحفزٍ وانتباهٍ ويقظةٍ ومتابعةٍ لكلّ متغيّر. لأن تلك الحدود ليست صلدةً على الإطلاق، وإنما تتصف بكثيرٍ من المرونة والسيولة، ويمكن لها أن تتغير وتتبدل على الدوام.تلك هي باختصار (الواقعية) في معانيها الحقيقية، والتي يفهمها وينطلق منها في أفعاله ومخططاته كل من يحترم نفسه ويبحث عن الاحترام في هذا العالم. وتلك هي بعض مقتضياتها وشروطها التي لا يصعب إدراكُها والحركةُ بمقتضاها حين يتوفّر الحدّ الأدنى من الجديّة والعزيمة والإرادة والحزم.إما أن تنحصر كل معاني الواقعية في مسألة إدراك (الحدود) وفي الدعوة للوقوف عندها.. وإما أن نختزل هذا المصطلح المهم والحسّاس في حياة الدول والشعوب عند تلك النقطة، فإنه على وجه التحديد ما يخلق المآزق الكبرى، لأنه يُحيلُ في الحقيقة إلى معنى (العجز) في لَبوسٍ مزيف لا تعودُ له علاقةٌ بالواقعية.وإذا لم يتمّ التعامل مع هذه القضية بحكمةٍ بالغة على الصعيد المحلّي والإقليمي والعالمي، فإن المآزق التي نتكلم عنها تُنذر بكثيرٍ من فوضى لا تقف عند حد ما نراهُ الآن. خاصة أن أغلب (الحدود) إنما تكون حدوداً في أذهان أصحابها فقط، ولا تكون هي الحدودَ الحقيقية التي تنبع من استقراءٍ سليم للواقع، أي أنها لا تنبع من (الواقعية) ولا تمتُ إليها بِصِلة.لا تعرف السياسة الثبات. وحتى حين تكون هناك ثوابتُ تتعلق بالمصالح الاستراتيجية، فإن الوصول إلى تحقيقها ممكنٌ من ألف طريق. وإذ ترغبُ القوى العالمية في ضمان أعلى سقفٍ ممكن لمصالحها، العاجلة والآجلة، بأقل ثمنٍ ممكن، وعلى حساب مصالح الآخرين، وهو ما يحصل في غياب التفكير السياسي الخلاق من قبل هؤلاء الآخرين.. فإن تلك القوى نفسها هي أولُ من يفهم لغة التوازنات. لهذا، فإنها تكون دائماً مستعدةً لخفض سقف المصالح، ولدفع بعض الثمن، واحترام مصالح الآخرين، في سبيل ضمان الحدّ الأدنى الاستراتيجي من مصالحها الحقيقية.ففي عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرار أن يتبدل، إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك. بل إن من الممكن أيضاً حصول كل ما نتصور أنه مستحيل حين نَركنُ للوقائع والأحداث، ونرضى بكل المتغيرات، ونقبل مُسبقاً أنها قَدَرٌ لا يُرد..أكثرُ من ذلك. يختلط الهزلُ بالواقعية في عالم السياسة، وأحياناً بشكلٍ مفرط. ومثلُ هذا الخلط ليس مقصوراً على مكان دون آخر في هذا العالم. إذ كما يقول الزعيم السوفيتي السابق خروتشوف: "الساسة هم الساسة في كل مكان. إنهم يَعِدُون ببناء جسر حتى في المكان الذي لا يوجد فيه نهرٌ جارٍ".. لكن أمريكا قد تكون أكثر بلد في العالم يختلط فيه الهزل بالواقعية. من هنا، ربما نفهم ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، المعروف بصراحته، عن رأيه في السياسة بهذه العبارة: "من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهاً كبيراً بينها وبين أقدم مهنة".. لهذا يحاول الساسة الأمريكان تطبيق القاعدة التي عبرت عنها هيلاري كلينتون، المرشحة القوية لتكون أول رئيس / امرأة للولايات المتحدة، حين قالت: "إن التحدي يكمن في ممارسة السياسة كفنٍ يجعل عدم الممكن يبدو وكأنه ممكن". لكنهم يدركون في النهاية أن ما يجب أن يكون سيكون. سيما وأن من التقاليد الثقافية السائدة في أمريكا، وفي عالم السياسة على وجه الخصوص، الاعتقاد بأن لكل أزمة تأتي في المستقبل حلاً يتناسب معها يجري التفكير فيه آنذاك. وكثيراً ما تسمع في أمريكا عبارة "سنفكر كيف نعبر ذلك الجسر عندما نصل إليه"..هنا يبرز اختلاط الهزل بالواقعية مرة أخرى، ولكن بذلك الشكل المعقد الذي يتجلى أكثر ما يتجلى في المنظومة السياسية الأمريكية. الأمر الذي يفسر الشعور بالدوار الذي يصيب كثيراً من المراقبين والساسة، العرب على وجه الخصوص، وهم يحاولون أن يفهموا السياسة الأمريكية ويتعاملوا معها، وفق ما يعتقدون أنه قواعد ونظم محددة لا تتغير ولا تتبدل. ومادام استخدام الشهادات قد غلب على هذا المقال، فقد يكون مناسباً خَتمهُ بالإشارة إلى عبارةٍ للسياسي الأمريكي يوجين مكارثي تحدث فيها عن رؤيته للسياسة قائلا: "أن تكون سياسياً يُشبهُ أن تكون مدرباً لكرة القدم [الأمريكية]. يجب أن تكون ذكياً بما فيه الكفاية لتفهم اللعبة، وأن تكون غبياً بما فيه الكفاية لتظن بأنها مهمة".. ولو فَهمَ البعض الدلالات العديدة الكامنة في الكلمات السابقة لربما صاروا أكثرَ راحة، نفسياً وعملياً، ولأصبحوا أكثر (واقعيةً) بالفهم الوارد أعلاه، ولأمكن لهم فهم السياسة الأمريكية والتعامل معها بشكلٍ أفضل.