14 سبتمبر 2025
تسجيللو تتأمل معي الآيات التي يتحدث الله عز وجل عن الصيام في سورة البقرة، وقد اقتربنا من الشهر الفضيل، ستجد بعدها مباشرة آية تنهى عن أكل أموال الناس بالباطل. فربما وأنت تقرؤها تشعر كأن الآية أخرجتك إلى سياق آخر غير سياق الصوم. لكن بشيء من التأمل، ستجد أنه كما دعت آيات الصوم المسلم للامتناع عن الأكل والشرب وغيره في عبادة الصيام، من وقت محدد للإمساك إلى وقت محدد للإفطار، فإن هناك إشارة للمسلم أنه مطالب كذلك دوماً، وليس في وقت محدد كالصوم، بالامتناع عن أكل من نوع آخر، ليس طعاماً ولا شراباً، بل أكل أموال الناس بالباطل. أكل الأموال نوعان؛ نوع يكون بالحق، وآخر بالباطل. فأما أكل الأموال بالحق، فهو واضح لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات، وأبرز أمثلته الراتب الشهري، تأخذه من بعد أداء عملك بذمة وضمير، أو تكسب أموالاً من تجارة مشروعة، دون غش أو تحايل أو احتكار أو ما شابه من أساليب محرمة في التجارة. لكن موضوعنا اليوم يدور حول النوع الثاني من أكل الأموال، والذي يكون بالباطل، سواء تم بشكل فردي أو بمعاونة آخرين على شكل قضاة أو محامين أو أصحاب نفوذ وسلطة، أو وسطاء أو غيرهم. فهذا الشخص، أو آكل المال بالباطل أو المال الحرام -إن صح وجاز لنا التعبير- يكون قد أدخل نفسه دائرة لا يُرجى منها خير، لا في دنياه ولا آخرته، وما لم يخرج منها سريعاً، فإنه سيقع في خطر الاستمرار على هذا الفعل أو هذا المسلك، من بعد أن يكون الشيطان قد زين له أعماله أكثر فأكثر حتى يعتاده أو يألفه، ليدخل بعدها مستوى خطيراً لا يرى في عمله المحرم بأساً، لينتقل إلى مستوى أعمق وأعقد حين يبدأ مرحلة الدفاع عن فعله المحرم! اليوم أينما أدرت وجهك، ترى عمليات متنوعة، وكثير منها منتظمة أيضاً، من عمليات أكل أموال الناس بالباطل أو الحرام، حتى أمست بلا سقف أو حدود، أو لا تبدو أن لها نهاية أو قاعاً. الأمور تزداد سوءاً على كل المستويات والمجالات. آكلو الحرام يزدادون ثراء وجشعاً وقسوة، والمستضعفون أو الضحايا يزداد هوانهم وضعفهم، فيما الأبواب القانونية غالباً تكون موصدة أمامهم، أو لا يجدون إليها سبيلاً، خاصة مع شيوع مقولة ظالمة عند العامة، هي أن القانون لا يحمي المغفلين! فإن كان صحيحاً والقانون لا يحمي المغفلين أو أصحاب النوايا الطيبة والقلوب النظيفة، فمن يحمي إذن؟ ولن ندخل في جدال حول هذا المفهوم، كيلا يضيع منا خيط موضوعنا الرئيسي. احذر من هذه الأموال لا شك أن كثيرين وهم يرون عمليات أكل أموال الناس بالباطل، يتساءل أحدهم مندهشاً: كيف لمسلم أن يأكل الرشوة، قليلة كانت أم كثيرة؟ وكيف يأكل مال الغصب عبر الاستيلاء على الأرض دون وجه حق، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر: «من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه، خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين». وكيف يأكل مال يتيم، وكيف يأكل ديون الناس حين يقترض منهم وفي نيته عدم الوفاء والسداد؟! وكيف يأكل مالاً كسبه من قمار أو مراهنات أو أثمان بضائع محرمة كالخمر والخنزير وغيرها، حتى لو طابت نفسه وأقنعها بجواز ذلك بشكل من الأشكال؟ ويدخل في هذا الحرام أو المال الباطل -كما قال السعدي في تفسيره: «أكل الأموال المسروقة أو الخيانة في وديعة أو عارية، أو بمعاوضة محرمة كعقود الربا، ويدخل في ذلك أيضاً أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة، أو استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه. ويدخل في ذلك أيضاً الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حق منها، أو فوق حقه. فكل هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه». قائمة المفلسين يوم القيامة أن تمتنع عن الأكل والشرب في عبادة الصوم، ثم تأكل أموال الناس بالباطل، فإنما هذا إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعض.. بل إن هذا العمل يُدخل آكل الحرام ضمن قائمة المفلسين يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطُرحَتْ عليه، ثم طُرح في النار». أكل المال بالباطل أو الحرام، إنما يحدث تدريجياً وباليسير منه بادئ ذي بدء، ثم يتطور وتتعقد الأمور. يساعد على ذلك التقدم والتعمق في الحرام، انحسار أو تراجع ملحوظ في الإيمان. أي أنها عملية عكسية. كلما زاد الأكل من الحرام، ضعف الإيمان وقسى القلب حتى يبلغ مستوى التحجّر، فلا يتأثر حينذاك بموعظة أو نصيحة، خاصة إن وجد من يكيّف له الأمور ويزينها من الإنس قبل الجن، بشكل قانوني عبر ثغرات لا يعرفها إلا المختصون في القوانين، أو بشكل ديني عبر لَيّ أعناق النصوص الشرعية، لتتوافق وتطلعات آكل الحرام والعياذ بالله. زبدة الكلام أكل أموال الناس بالباطل، عمل لا أخلاقي ولا إنساني، قبل أن يكون عملاً محرماً قانوناً وشرعاً. هو انتكاسة في الأخلاق والإنسانية، يصلها الإنسان بسبب حبه الجم للمال، وحب الإكثار منه والولع به إلى درجة الفحش، لا تضبطه روادع وزواجر على شكل قوانين أو أخلاقيات أو إيمانيات. من يكون همه الإكثار من ماله بأي شكل من الأشكال، لابد أن يتفكر لحظات أو يوقفه أحد للتنبيه على أن هذا المال سيكون أحد أربعة أمور سوف يُسأل عنها يوم القيامة، والمالُ تحديداً قد خُصص له سؤالان، كما في الحديث الصحيح: «لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عُمرِه فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمِل به؟ وعن ماله من أين اكتسبَه، وفيم أنفقهُ؟ وعن جسمه فيم أبلاهُ؟ بالإضافة إلى أن المال الحرام سيكون سداً منيعاً أمام دعواته بالليل والنهار، والتي ستكون حدودها سقف غرفته لا أكثر. فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. سائلين الله ختاماً أن يعيننا على الصيام والقيام وتلاوة القرآن. وكل عام وأنتم بخير. [email protected]