26 أكتوبر 2025

تسجيل

فيروس كورونا يشل الاقتصاد العالمي

31 مارس 2020

* التأثيرات تشمل التبادل التجاري والترابط المالي والسياحة والنقل * الاقتصاد العالمي مقبل لا محالة على تراجع إن لم يكن انكماشاً حاداً * قطاع النقل الجوي الأكثر تضرراً مع الانخفاض الكبير في معدلات الرحلات * كورونا دفع العديد من الحكومات للتدخل ببرامج إنقاذ للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية * برامج الإنقاذ والدعم ستخفف من معاناة الكثيرين حول العالم * لا شك أن عالم ما بعد كورونا سيختلف عما قبله منذ تفشيه ولا يزال فيروس كورونا يعثو في الاقتصاد العالمي دمارا حتى أصابه بالشلل. فعرقل الإنتاج والإمداد والنقل الجوي عبر العالم، و أضعف الطلب العالمي، وعزل دولا ووضعها تحت الحجر الصحي، وأخرى تحت حظر التجول، وأصاب قطاعات المال والطيران والنقل والسياحة بخسائر فادحة. * قنوات التأثير هناك عدة قنوات يؤثر من خلالها الفيروس على الاقتصاد العالمي، وهي (1) التبادل التجاري، إذ يؤدي إلى إعاقة الإنتاج وعرقلة الامداد وإضعاف الطلب العالمي، ومنه الطلب على الطاقة. (2) الترابط المالي، و قد طال تأثيره المادي والمعنوي أسواق المال العالمية بانهيارات وأسوأ أداء منذ اندلاع الأزمة المالية العالية عام 2008، وبهذا تعطي أسواق المال مؤشرا سلبيا على شعور المستثمرين عن توجهات تأثير الفيروس على الاقتصاد العالمي. (3) السياحة و النقل، إذ خفض معدل الرحلات وأغلق العديد من المطارات حول العالم. فهو يؤثر على جانبي العرض و الطلب العالمي. أما على مستوى الاقتصاد المحلي للدول، فيؤثر الفيروس من خلال ثلاث قنوات، هي: (1) إعاقة النشاط الاقتصادي، عبر إعاقة الإنتاج والخدمات والموصلات و النقل والسياحة والتسوق، وهكذا هو يضعف العرض والطلب. هناك مدن وضعت تحت حظر التجول وتحولت إلى مدن أشباح، كما شهدنا في الصين و إيطاليا، والعدد اخذ في الازدياد حول العالم. (2) تكاليف التصدي والاحتواء، من إنقاذ ودعم وإجراءات احترازية، لقطاع الصحة و القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، بتكاليف باهظة وآخذة في الارتفاع. (3) الثقة و اليقين، فالارتباك وعدم اليقين يضعفان الثقة ويؤدي ذلك إلى الإحجام عن الاستثمار والإنفاق والسياحة. فعمليًا الفيروس يصيب الاقتصاد العالمي بالشلل. وهناك توقعات بتراجع النمو في الصين وانكماش في اليابان و ركود في فرنسا، وهناك دعم مالي ضخم في ألمانيا وإغلاق للمناطق الصناعية في شمال إيطاليا، وخفض طارئ لأسعار الفائدة إلى حدود الصفر في بريطانيا وأمريكا مع ضخ سيولة هائلة لإنقاذ القطاع المالي ودعم الاقتصاد في أمريكا، وفي منطقة اليورو (750€ مليارا). * ركود عالمي يبدو أن الاقتصاد العالمي مقبل لا محالة على تراجع إن لم يكن انكماش حادا. والتوقعات الأولية تشير إلى انخفاض النمو بحدود%0.9-0.5 إلى %1.5 هذا العام، وقد يصل إلى ادنى مستوى له منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2009، بحسب منظمة التعاون الأوربي. وقد يشهد العالم أسؤ أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي. ولكن هذه الاحتمالات ستعتمد على مدى الانتشار الزماني والمكاني للفيروس، وعمق الأزمة التي سيتسبب فيها، ومتى تضع الحرب معه أوزارها، التي ربما تمتد لعدة أشهر، حتى نهاية العام أو إلى أن تتوفر اللقاحات المطلوبة للوباء. وربما ينحسر الوباء قبل ذلك، ولكن كلما طال أمد الصراع معه أدى ذلك إلى ارتفاع حالات الإفلاس بين الشركات و البطالة بين المجتمعات، وستكون الفئات الأضعف وذوو الدخل الأقل هم الأكثر عرضة، وسيكون لذلك تبعات اجتماعية كبيرة، و ضغوطات هائلة على الحكومات لتعزيز الاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي، من خلال برامج الإنقاذ والدعوم المختلفة و خفض الضرائب، وهي حكومات ستكون دخولها وتمويلها متأثرة أساسا بسبب شلل الاقتصاد المحلي والعالمي. وسيشكل كورونا مع انهيار أسعار النفط بسبب حرب الأسعار السعودية أثرا سلبيا مزدوجا على دول الشرق الأوسط، وسيشكلان تحديات كبيرة للدول التي تعاني من هشاشة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية أساسا، ولم تستفد من تجربة الربيع العربي بالمضي قدما بإصلاحات مقنعة، كالعراق ولبنان و الجزائر ومصر. * الصين مثال واضح تعطي الصين، وهي مهد تفشي الوباء، مثالا واضحا على كيفية إضرار الفيروس بالاقتصاد الصيني ومنه إلى الاقتصاد العالمي. فالصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بنسبة %17 من حجم الاقتصاد العالمي، وهي أكبر مصدر للبضائع حول العالم، و تعتبر مصنع العالم إذ تمده بثلث احتياجاته من المنتجات الصناعية، وهي أكبر مستورد للنفط في العالم، وتشكل مصدرا كبيرا للطلب على السياحة العالمية. لذلك عندما يصاب الاقتصاد الصيني بالشلل، فلابد أن يتأثر العالم. فبقاء العمال في بيوتهم وإغلاق المصانع أديا إلى هبوط المؤشر الصناعي لأدنى مستوى في تاريخه. فكان قطاع الصناعة الصيني هو الأكثر تضررًا، إذ انخفض نشاطه لأرقام قياسية وهذا سيؤدي إلى عرقلة الإمداد من الصين للعالم، سواء بمنتجات نهائية أو وسيطة داخلة في إنتاج منتجات أخرى حول العالم. ولو طال أمد هذه الأزمة فسيسهم ذلك في ارتفاع تكاليف الإمداد والإنتاج العالمي، وسيسهم بالتالي في تباطؤ الاقتصاد العالمي. وهناك كثير من شركات التصنيع العالمية التي تعتمد على سلاسل إمداد من الصين. ويعكس تهاوي مبيعات السيارات بنحو %92 في شهر فبراير مدى تضرر قطاع الموصلات الصيني. وهكذا تفشي الوباء في دول صناعية أخرى سيكون له أثر مماثل على قطاعاتها الصناعية ونشاطها الاقتصادي. * كورونا وحرب النفط الصين أكبر مستورد للنفط في العالم والصدمة التي سببها فيروس كورونا للاقتصاد الصيني أضعفت الطلب العالمي على النفط الذي تتوقع وكالة الطاقة الدولية بأن ينخفض لأدنى مستوى له في 10 أعوام، ومن الممكن تغير هذه التوقعات إلى الأسوأ إذ سرعان ما تلقى الطلب العالمي صدمة أخرى أدت إلى المزيد من إضعافه بسبب حرب الأسعار السعودية التي أدت إلى انهيار الأسعار إلى ادنى مستوى لها في 20 عاما، بنسبة %30 إلى ما دون 30$ للبرميل. وبذلك تلقت أسواق النفط ضربتين موجعتين في آن واحد، من فيروس كورونا ومن حرب أسعار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ولو طال أمد الحرب فستكون لها آثار كارثية على اقتصادات العديد من الدول المصدرة و دول مجلس التعاون والنفط الصخري. * كورونا والحرب التجارية سيفاقم كورونا من الضغوط الموجودة أساسًا بسبب الحرب التجارية. فتقطع الإمدادات للشركات التي تعتمد على مدخلات من الصين سيصب في صالح حرب ترامب التجارية مع الصين، و قد يؤدي إلى المزيد من التحول عن الصين والتنويع في مصادر الإمداد للحماية من الصدمات الناشئة من خلال تركز الاستيراد من بلد معين، ولكنه لن يؤدي إلى تحول كامل عن الصين، ولا يعني ذلك بالضرورة أن الشركات ستعود إلى أمريكا، ولكن ربما تبحث عن أماكن أخرى. * كورونا والنقل الجوي كان قطاع النقل الجوي من الأكثر تضررًا بأزمة كورونا مع الانخفاض الكبير في معدلات الرحلات حول العالم وبقاء الطائرات على الأرض وإغلاق العديد من المطارات للحد من انتقال الفيروس بين الدول وعبر العالم. وانخفضت معدلات الرحالات مع المناطق الموبوءة، كالصين و إيطاليا و إيران و مصر وغيرهم، وتم حظر الطيران بين أمريكا وأوروبا، وإغلاق بعض المطارات في الشرق الأوسط. فانخفض معدل الرحلات من الصين إلى العالم ب %56، وانخفض ركاب الطيران الصيني ب %85 في فبراير المنصرم عن نظيره من العام الماضي، وألغت شركة الطيران الكورية %80 من رحلاتها الدولية، وتقول لو استمر ذلك لفترة طويلة فسيهدد وجودها. وفي الشرق الأوسط، ذكر اتحاد النقل الجوي العالمي أن شركات الطيران ستواجه أزمة سيولة بسبب الإحجام عن الطيران و السفر، ودعا الحكومات للتدخل بالمساعدة. ومع تقلص حركة الطيران حول العالم، تشير التوقعات الأولية لإفلاس بعض الشركات وتخطي خسائر شركات الطيران العالمية 100 مليار دولار، مع انخفاض القيم السوقية لصناعة الطيران، إذ فقدت شركة بوينج على سيبل المثال، %20 من قيمتها. وقد طلب العديد من شركات الطيران مساعدات، على شكل قروض و ضمانات و إعفاءات ضريبة. * الإنقاذ والدعم دفع كورونا العديد من الحكومات حول العالم للتدخل ببرامج إنقاذ ودعم ضخمة للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية المتضررة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، و دعم النمو لتحاشي الدخول في انكماش اقتصادي عميق. فهناك خطط و برامج دعم و تحفيز نقدي و مالي، لدعم القطاع المالي و اللوجستي والإمداد والنقل و لمواجهة ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، في مناطق مختلفة من العالم، كالاتحاد الأوربي و بريطانيا و الشرق الأوسط. وفِي الولايات المتحدة، أقرت خطة دعم اقتصادي واجتماعي غير مسبوقة بترليوني دولار حيث بلغت طلبات العاطلين عن عمل مستويات تاريخية. وتعكس هذه التدخلات قلق الحكومات من زعزعة كورونا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في بلدانها. * كورونا يضرب أسواق المال تواصلت انهيارات أسواق المال العالمية والإقليمية بتراجعات هي الأسوأ منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008. ورغم تدخل البنك المركزي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة إلى صفر، لتحفيز الطلب، وضخ $700 مليار، والدخول في برامج مبادلة مع البنوك المركزية الرئيسة لتوفير السيولة الدولارية حول العالم، و تجنب شح السيولة وتجمد أسواق المال، إلا أن رد الأسواق جاء معاكسًا بالمزيد من الارتباك والانهيارات المدفوعة بقلق من الدخول في انكماش اقتصادي عميق. ففقدت البورصة الامريكية ما يزيد على 11 ترليون دولار من قيمتها السوقية منذ تفشي كورونا. وفي دول مجلس التعاون كان التراجع في أسواق المال هو الأدنى منذ اندلاع الأزمة المالية العالية بما يزيد على %24، وكان الانخفاض في قيمها السوقية هو الأسوأ في تاريخها. و تقع دول مجلس التعاون تحت تأثير ضغط مزدوج ناتج عن أزمة كورونا وانهيار أسعار النفط، اللذين سيشكلان تحديات كبيرة لحكومات المنطقة. وتأثير كورونا على أسواق المال الخليجية يأتي من خلال أسواق المال العالمية، وتأثيرها النفسي والمادي على حركة رؤوس الأموال، ومن خلال التأثير المباشر بشل القطاع المالي والنشاط الاقتصادي المحلي. ولانهيار أسعار النفط تأثير سلبي على مزاج المستثمرين من خلال إضعاف الثقة و اليقين، وتأثير مادي من خلال انخفاض مداخيل النفط وتأثيرها على الإنفاق العام والأداء الاقتصادي والنمو، وبالتالي أيضا على أداء الشركات و أرباحها. وقد تدخلت حكومات المنطقة ببرامج دعم للقطاعات المتضررة، اشتملت على إعانات اجتماعية وإعفاءات ضريبية، و دعم و تحفيز مالي، وتأجيل سداد القروض المستحقة على القطاعات المتضررة، وخفضت البنوك المركزية الخليجبة أسعار فائدتها محاكاة لخطوات البنك المركزي الأمريكي، ولكن لايزال هناك عدم وضوح في تنفيذ هذه السياسات وهذا يضعف الثقة ويحد من فاعلية هذه السياسات. ولا شك أن برامج الإنقاذ والدعم للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية المتضررة ستخفف من معاناة الكثيرين حول العالم، ولكن أثر التحفيز النقدي والمالي يبقى محدودا في إنعاش الطلب، في اقتصاد مشلول وعالم يقبع تحت حجر صحي، حتى ينحصر الوباء تدريجًا. ولاشك أن عالم ما بعد كورونا سيختلف عما قبله. د. خالد بن راشد الخاطر * متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي بمركز الاقتصاد الكلي و معهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كمبردج البريطانية [email protected]