15 سبتمبر 2025

تسجيل

في عودة الروح للثورة السورية

31 يناير 2016

بعد الإجابة بنعم على سؤال الذهاب إلى جنيف، ثمة إجابةٌ، وجدَها السوريون، على سؤالٍ أكبر يتعلق بإمكانية عودة الروح إلى الثورة السورية وفق منطلقاتها الأصيلة، ويجب أن يحافظوا عليها. نعم كبيرة، قالها السوريون خلال الأسابيع القليلة الماضية لذلك السؤال الكبير.فمع اقتراب الذكرى الخامسة لثورتهم، أنجزوا اختراقاً قد يكون هو الأكبر منذ انطلاق الثورة. ورغم الكراهية الشائعة لكلمة (التصحيحية) في الأوساط السورية لارتباطها بانقلاب حافظ الأسد، إلا أن ما جرى ويجري يمكن أن يكون بمثابة ثورةٍ تصحيحية بكل معنى الكلمة.بدأ الأمر مع انعقاد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية في التاسع من(ديسمبر) الماضي، حيث اجتمعت كل الفصائل السياسية والعسكرية المؤثرة للمعارضة، وتوافقت مجتمعةً على مسارٍ للحل السياسي، وفق مبادئ إعلان جنيف1، من خلال وثيقةٍ مكتوبةٍ وقعَ عليها الجميع. تلا ذلك بسرعة انتخاب هيئةٍ عليا للمفاوضات، ثم جملةُ ترتيبات تنظيمية وتحضيرات انتهت بتشكيل وفدٍ تفاوضي. وإلى مساء الجمعة، كان أداء الهيئة العليا للمفاوضات كافياً لاجتماع السوريين حولها بدرجةٍ غير مسبوقة.إلى هنا، كانت أجواء الحذر والترقب تسود السوريين الذين كانوا متخوفين من تكرار المظاهر السلبية في التجارب السابقة للمعارضة.. كان هذا هو الوضع رغم وجود مؤشرات على أن الوضع كان مختلفاً هذه المرة. يكفي مثلاً حضور ممثلي الجناح العسكري للثورة، خاصة الفصائل التي تُوصفُ بأنها (إسلامية معتدلة)، وهو الأمر الذي كان بدوره اختراقاً استراتيجياً محسوباً لها. ذلك أن الرهان الأكبر للنظام السوري وحلفائه، والروس تحديداً، على فشل المعارضة في مؤتمر الرياض كان يكمن في عدمِ حضور هذه الفصائل. فبالنسبة لهم، سيكون مثل هذا القرار مدعاةً لتأكيد الافتراق بين الجناحين السياسي والعسكري للثورة، ووسيلةً لإلغاء مصداقيتهما معاً. فمن جهة، كان سيُقال إن القرار كشف أن الفصائل (إرهابية)، وأنها لا تقبل بأي عمليةٍ سياسية، وأن العنف هو منهجها الوحيد. ومن جهةٍ أخرى، كان سيُقال إن المعارضة السياسية معزولة عن القوى الفاعلة على الأرض، وإنها تفتقد بالتالي لأي قيمةٍ ومشروعية، ولا يمكن لها، بطبيعة الحال، ضمان تنفيذ أي اتفاقٍ سياسي.هذا يُفسر الجنون الذي أصاب النظام والروس، إلى درجة محاولتهم استفزاز الفصائل من خلال عملية قتل الشيخ زهران علوش، قائد (جيش الإسلام). لكن إصرار الفصائل على استمرارها في العمل مع الهيئة العليا ومن خلالها كان عنصراً من عناصر عودة الروح، التي نتحدث عنها، إلى الثورة السورية. بمعنى إدراك الأثر الخطير لوحدة كل من يعمل لتحقيق أهداف الثورة، وامتلاك الإصرار والعزيمة على التعامل مع الضغوط بروح وطنية بعيداً عن الحسابات الشخصية أو التنظيمية أو الأيديولوجية.لكن أيام الأسبوع الماضي حملت معها تطورات أخرى مع اقتراب موعد الاستحقاق في جنيف، والذي كان السيد ستيفان ديميستورا يرغب أن يتزامن مع عيد ميلاده في الخامس والعشرين من هذا الشهر. فبعد المؤتمر الصحفي للرجل، بنفس التاريخ، والذي سبَقهُ لقاء هاتفي مطول بين المنسق العام للهيئة رياض حجاب ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري، كانت المؤشرات والمعطيات تُرجح قرار عدم المشاركة في جنيف لأسباب تتعلق بتركيبة الوفد ومحاولة فرض وفد ثالث أو أعضاء خارجيين، وعدم الاكتراث المُطلق بالبنود 12 و13 من القرار 2254، وغموض أجندة المفاوضات فيما يتعلق بموضوع تشكيل الهيئة الانتقالية كاملة الصلاحيات، وأخيراً التغاضي عن موضوع رحيل الأسد، بل وطرح إيحاءات بإمكان بقائه.وفوراً، عملت الهيئة على التصعيد في الموقف من خلال التأكيد بصعوبة حضورها في تلك الأجواء. ونتجَ عن هذا على مدى ثلاثة أيام موقفٌ شعبي سوري ملتفٌ حول الهيئة بشكلٍ كبيرارتفعت ثقة السوريين بالهيئة وتزايد توحيد الصف حول موقفها، وبالتالي أصبح لتفويضها الشعبي مصداقية، وتفككَ موضوع الوفد الثالث أو إضافة أعضاء خارجيين بشكلٍ مُهين نسبياً لكل من روسيا ومناع وأمثاله، وحتى لديمستورا، ثم جاءت رسائل أمريكية لتوضيح الموقف من رحيل الأسد والهيئة الانتقالية، وتعهدَ السيد ديمستورا في رسالته بأن البنود المذكورة أعلاه هي "حقوق غير قابلة للتفاوض"، وأصبحت لدى الهيئة وثيقة رسمية أممية تتعلق بالموضوع.بهذا التغيير، ومع الضمانات التي طرحتها المعارضة في قرار المشاركة، خاصةً فيما يتوقف بموقف المملكة، وغيرها من الأطراف، تغيرت المعطيات إلى حد كبير، وصار بالإمكان إيجاد مخرج يُحرج النظام، ويحافظ على الالتفاف الشعبي، ويكون مؤشراً على أن الهيئة تتصرف بطريقة عمل رجال الدولة. بدل حصار النفس في موقف (إما) (أو) الخانق.هذا المخرج معقدٌ ومتعدد الحسابات والبدائل والمخارج المُشرفة، ولا يمكن الحديث فيه هنا لأنه يتعلق ببعض خصوصيات العملية التفاوضية وتكتيكاتها..في هذا الإطار، يجب أن يحافظ السوريون على التفافهم حول الهيئة العليا، وأن تستمر ثقتهم بها وبقراراتها. لأن دعمهم لها هو مصدر شرعيتها الحقيقية، ومصدر قوتها لمتابعة الأداء الجيد الذي رأوه منها حتى الآن. ويجب أولاً وأخيراً تجاوز أن موقف (لا) هو الموقف السياسي الصحيح بغض النظر عن كل شيء. ثمة فرصةٌ كبيرة لاستعادة روح الثورة الأصلية، بل ولتحقيق أهدافها، لكن هذا يحتاج إلى حسابات دقيقة تخرج عن عناصر الثقافة السياسية السورية التقليدية التي كانت سائدةً حتى الآن.