16 سبتمبر 2025

تسجيل

قراءة في عقل بوش الصغير

30 ديسمبر 2010

بعد عامين على خروج بوش الصغير من البيت الأبيض وابتعاده عن الظهور في الحياة العامة، ها هو يعود ليشغل الرأي العام الأمريكي والعالمي بمناسبة صدور مذكراته تحت عنوان decision points " القرارات المصيرية" أو "نقاط القرار" في ترجمة حرفية. الكتاب جاء في نحو 500 صفحة. طُبع منه مليون ونصف المليون نسخة. تقاضى بوش مقابله سبعة ملايين دولار. المراجعة السريعة لأهم نقاط الكتاب تبين طبيعة عقلية بوش الصغير التي حكمت مصير أمريكا وبالتالي مصير العالم. اختار بوش أن يسرد مذكراته في سياق محطات مفصلية تتوقف عند أربعة عشر قرارا مصيريا اتخذها أثناء رئاسته لولايتين متتاليتين (200 ـ 208). يعترف في مذاكراته، على نحو مخفَّف، بأخطاء ارتكبها. لكنه يشيد بإنجازات تاريخية يُصر أنه حققها. وهي في الحقيقة كوارث تاريخية. يبدأ بوش مذاكراته بواقعة هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وينهيه بتسونامي الانهيار المالي. أي أنه رئيس كارثي. واجه في بداية فترة حكمه كارثة 11 سبتمبر وأنهاها بفاجعة انهيار النظام المالي العالمي. وبينهما فواجع قتل وتدمير سبّبها للعرب والمسلمون في أفغانستان والعراق، وكذا في فلسطين ولبنان بواسطة إسرائيل. وبمثل ما خدمته هجمات 11 سبتمبر في وضع مخططات المحافظين الجدد وأوهام الصليبيين الجدد (المسيحيين المتصهينين) للهيمنة على العالم قيد التنفيذ، أطاحت حروبه الفاشلة، في العراق تحديداً، بمشروعه اليميني المتطرف للقرن الأمريكي الجديد، وأدت إلى هزيمة حزبه في انتخابات الرئاسة ومجلسي النواب والشيوخ. وهو إذ يعترف، في مذكراته، بأخطاء ارتكبها، يذكرها كأخطاء لا مناص من وقوعها بطبيعة الممارسة السياسية في مواجهة الأحداث غير المتوقعة. إن منطق قناعاته السياسية، التي هي شخصية بالضرورة (يقول إنه يتبع غريزته)، تعبر عن ثقافة الواسب (أبيض، أنكلوساكسوني بروتستانتي) الشعبوية، بروحها العنصرية المجبولة من ثقافة كو كلوكس كلان والكابوي جوين وين مُبيد الهنود الحمر بمسدسه سريع الطلقات الذي لا تفرغ ذخيرته من مخزنه. إنه مجرم حرب لا يتورع عن الافتخار بجرائمه التي حصدت أرواح مئات ألوف القتلى المدنيين وأضعافهم من الجرحى، قضوا صرعى صورايخ جيوشه وقنابلها، ورصاص جنوده ومليشيات شركاته الأمنية. ولا يتورع عن تمجيد التعذيب في صيغة الإيهام بالغرق رغم أنه رئيس قائم على صون دستور يجرم التعذيب. ولم يملك في تبرير خرقه للدستور الأمريكي والقانون الدولي سوى الادعاء الزائف بأن تعذيب "محاكاة الغرق" ساعد في الحصول على معلومات أدت إلى إنقاذ أرواح مواطنين بريطانيين، الأمر الذي نفاه عدد من المسؤولين الأمنيين البريطانيين في تصريحات لصحيفة الجارديان في مقالها التحقيقي تحت عنوان:"لا دليل على مزاعم بوش من أن التعذيب أسهم في إحباط خطط لشن هجمات إرهابية". وقد طالبت منظمة العفو الدولية حكومة الولايات المتحدة محاكمته بتهمة التعذيب باعتبار "محاكاة الغرق" صنفاً من التعذيب كما صرح بذلك وزير العدل الأمريكي الحالي أريك هولدر. والشاهد أن منظمات حقوقية دولية كثيرة بدأت تحضّر لملاحقة بوش قضائيا. يقول بيل كويغلي، المدير القانوني في المركز الأمريكي للحقوق الدستورية، مخاطباً بوش:" امض في بيع تلك الكتب. إنك قد تحتاج المال لتحمّل تكاليف المحامين". وما يهمنا التوقف عنده كعرب، في مذكرات بوش الصغير، هو كونه صليبيا صهيونيا. بدليل أن أمه اعتبرته "أول رئيس يهودي" للولايات المتحدة الأمريكية حسبما جاء في مذاكراته. ويصوِّر حربه المدمِرة للعراق والعراقيين "فتحاً مبيناً". يصوِّر نفسه في صورة محرّر الشعوب العربية من الاستبداد ومُحضّرها للديمقراطية. وأنه، بفضله، عمدت عديد من الأنظمة العربية إلى إجراء إصلاحات ديمقراطية. وهو يورد أمثلة تفضح قادة عرب سواء في تآمرهم مع أمريكا في حربها على العراق أو في خنوعهم خوفاً من الجبروت البوشي. ويُبدي كراهية لعرفات المقاوم ويكيل المديح لعباس المساوم. ويفسر دعمه للحصار الإسرائيلي الإجرامي على غزة، بالقول: " كنا نريد أن يرى سكان غزة التناقض الكبير بين ظروف معيشتهم تحت قيادة حماس وتلك القائمة تحت قيادة قائد ديمقراطي، عباس. وكنت واثقا أنهم مع الوقت، سيطالبون بالتغيير"... ويكشف كيف أنه في زيارته للشرق الأوسط، في مطلع العام 2008، لأجل تحضير حلفائه العرب لمواجهة إيران:" وجدتُ إسرائيل وحلفاؤنا العرب أنفسهم في لحظة نادرة من الوحدة"... إن العرب، شعوبا وقادة، بالنسبة له، أدوات استخدامية في استراتيجيات الامبراطورية. أما إسرائيل فهي قوة أمريكا الباطشة بالعرب المقاومين والممانعين لتركيعهم وإخضاعهم لهيمنة الامبراطوية. من هنا كانت حرب يوليو العام 2006 حرب بوش قبل تكون حرب أولمرت. اعتبرها فرصة سانحة لتوجيه ضربة قاصمة لقوة حزب الله وراعيه: إيران وسورية. ويقول إنه تأسف عندما أعلن أولمرت عدم استهداف سوريا. وقد ذهب مع نائبه ديك تشيني إلى الرهان الأقصى على القوة الإسرائيلية للقضاء على حزب الله في حرب يوليو 2006، بينما كانت وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، كما كتب بوش في مذكراته، تعارض فكرة "قضاء" إسرائيل على حزب الله، قائلة لديك تشيني:" إذا ما فعلت ذلك... سوف تموت أمريكا في الشرق الأوسط". وهو ما حدث فعلاً. ماتت أمريكا (مشروعها) في الشرق الأوسط. ولكن ليس بالقضاء على حزب الله وإنما لفشل إسرائيل في القضاء عليه، حتى أنها هي التي طلبت وقف إطلاق النار، فيما كان يُطالبها بإطالة مدة الحرب. أما سوريا فحقده عليها شديداً لموقفها الممانع. فبعدما قصفت إسرائيل عام 2007 المنشأة في دير الزور، شعر بوش بالرضى لأن العملية كما قال:" أعادت لي جزءا من الثقة بالإسرائيليين، والتي فقدتها بعد النتائج غير المرضية لحرب لبنان الثانية". والخلاصة لا ندم لديه. لا أسف. ولا اعتذار. فالاعتذار كمال قال في مقابلة تليفزيونية:" معناه أن القرار كان خاطئا". وهو ما لا يتسق مع شخصية مغرورة ومتعجرفة. إنه يتطابق مع خلّه الوفي توني بلير في احتقاره لحكم التاريخ:" مهما كان حكم التاريخ علي فأنا مرتاح لأنني لن أكون حيا كي استمع لحكمه..".