18 سبتمبر 2025

تسجيل

في الخليج.. أين المثقفون؟

30 نوفمبر 2017

انطلقت بالأمس النسخة الثامنة والعشرون من معرض الدوحة للكتاب، حيث يعيش محبو الكتب والتأليف والثقافة والفكر بشكل عام، أسبوعاً ثقافياً بين نتاجات الماضي والحاضر. منهم من يبحث عن قديم الإبداعات والإنتاجات والتاريخ وما مضى، ومنهم من ينتظر جديد ما أنتجته دور النشر المختلفة من إصدارات وروائع، وفريق ينتظر الحدث ليعيش ليالي وأياماً في رحاب الكتب، يقرأ ويتأمل وينظر في آلاف العناوين حتى ينقضي الحدث، الذي يكون عادة كالبرق لا يشعر به محبو الكتب وعشاقها.. مع هذا الحدث السنوي، نجد أنفسنا في كل عام نتساءل في ندواتنا ومؤتمراتنا ولقاءاتنا الثقافية المتنوعة، عن دور المثقفين في المجتمعات، وعن صحة ما يثار بأن هناك أزمة ثقافة ومثقفين في الخليج، من قبل أن تظهر أزمات سياسية واقتصادية وغيرها.. الأسئلة كثيرة ومتعددة، وتحتاج إلى عديد الندوات، يشارك فيها نخب المهتمين بالأمر. ذلك أن الحاصل الآن يفيد دون شك، بأن السياسة قد لعبت دوراً مؤثراً على الحركة الثقافية، ليس في منطقة الخليج فحسب، بل المنطقة العربية كلها.. ولعل في السطور الآتية محاولة للتفاكر في هذا الأمر.   لعب النفط دوراً مهماً في الحياة الثقافية، كبقية المجالات الحيوية الأخرى في المجتمعات الخليجية، من تعليم وصحة واقتصاد وواقع اجتماعي وغيره.. على أنه لم يكن بذاك التأثير القوي على الثقافة بشكل عام، باعتبار أن الواقع الذي كان عليه أهل المنطقة قبل ظهور هذا السائل الحيوي المهم، قد لعب دوراً مهماً في تشكيل ثقافتهم التي قامت على أساس الحرمان والظروف الاقتصادية الصعبة، والكفاح من أجل حياة عزيزة كريمة، والتطلع إلى حياة أفضل. مرور المنطقة بفترة تاريخية معينة هي أيام المد القومي والناصري وكذلك اليساري، أثّر وبشكل بالغ على ثقافة أهل المنطقة، التي كانت تعيش أيضاً تحت ظل الاستعمار البريطاني، والشعور السائد حينها بضرورة التحرر من ربقة هذا الاستعمار.. فكانت نتيجة تلك العوامل، تأثر كثير من طلاب البعثات وكذلك التجار كثيري السفر إلى البلاد العربية الثورية، بثقافة ذات طابع سياسي ثوري استمرت إلى أن حصلت دول المنطقة على استقلالها، وانحسار المد القومي، وبداية التأثر بنتاج وعائدات النفط، والاستعداد تبعاً لذلك، للانتقال إلى حياة جديدة تختلف عن السابق وبدرجة كبيرة. كل تلك العوامل بدأت في التأثير مرة أخرى على نوعية وتوجه ثقافة أهل المنطقة، التي كانت تستعد لتبني ثقافة من نوعية جديدة هي ما يمكن أن نطلق عليها بالثقافة الاستهلاكية البحتة، التي لا تتوقف عند حد معين، بل كلما تعمق المرء في الأخذ منها، ازدادت درجة الارتباط بها والسير على هداها وفي طريقها.     إذن يتبين مدى تأثر المنطقة الخليجية بعائدات النفط فيما يتعلق بالثقافة.. فلقد تغيرت كثير من القيم والمفاهيم بسبب الحياة الجديدة، والتغير الهائل الذي حصل للمجتمعات الخليجية خلال جيل واحد فقط، فصار الاهتمام بالجوانب الاستهلاكية للحياة غالباً، وصار التعليم أضعف ما يكون في مواجهة تلك القيم، وخصوصاً أن التعليم مازال في المنطقة يركز على الكم وليس النوع، وبالتالي صارت مخرجاته على درجة من الضحالة في الفكر والثقافة، بحيث لا يمكنها الصمود أمام الثقافات الأخرى التي تغزونا كل يوم بأشكالها المختلفة المنوعة والمثيرة أيضاً.. يذكر الدكتور محمد العيدروس، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الكويت، في كتابه "تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر"، بأن المثقف الخليجي صار الآن سلبياً وعلى درجة من الضعف والقبول بالعيش على الهامش.. حيث إن أغلبية المثقفين تهرب من القضايا المصيرية إلى تفصيلات الحياة اليومية والإغراق فيها، في حين أن البعض الآخر يهرب إلى الماضي.. وربما يكون الذي يدفعهم إلى تلك العزلة، كما يقول الدكتور العيدروس هو أن السلطات الرسمية تنظر إلى النتاج الثقافي الجاد على أنه من الممنوعات الخطرة المؤثرة على الاستقرار الأمني، إضافة إلى ظهور طبقة من (أشباه المثقفين) أو من مدعي الثقافة، الذين صاروا يمتطون صهوة الثقافة من أجل مناصب عليا يخططون للوصول إليها، وهم من أكثر الذين يحاربون الأنشطة والفعاليات الثقافية الجادة. لقد أظهرت أزمة الخليج الحالية، هشاشة دور المثقفين الخليجيين، بل لقد ضاع دورهم القيادي المؤثر أو كما يجب في مثل هذه الملمات والأزمات، وصار مثقفو كل دولة يتحصنون في قلاعهم الرسمية أو خلف الساسة، ينشدون السلامة أولاً ومن ثم يتطلعون إلى رضا ولي الأمر وإن كان يجانب الحق والصواب! لقد أثبتت الأزمة كذلك، الدور العظيم المؤثر للساسة في توجيه المجتمعات، بدلاً من أن يكون هذا الدور للمثقفين والمفكرين والعلماء، الذين هم من يصنع ويشكّل توجهات ورؤى الشعوب بمن فيهم الساسة.. ولكن حين تخلوا عن دورهم القيادي هذا، رغبة أو رهبة، ضاعت بوصلة مراكب المجتمعات الخليجية، فصارت تسير على هدى السياسيين تارة أو المشتغلين بالإعلام تارة أخرى.. ولهذا ترى المراكب الخليجية تنتقل هنا وهناك، في تحركات تشوبها الكثير من التخبطات، ليس في السياسة فحسب، بل غالبية المجالات، وتلكم التخبطات لا شك بأنها لا تسر ولا تنفع كذلك.. وهكذا الخليج من أزمة إلى أخرى، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.