18 سبتمبر 2025
تسجيلعبثاً حاولت الحكومة السودانية أن تصلح حال الاقتصاد ولكنها فشلت كثيراً، واليوم تواجه تحدياً اقتصادياً كبيراً يكاد يعصف بقدرتها على تسيير الأوضاع في البلاد.. مظاهر الفاقة في الشارع ناقوس خطر وإشارة حمراء يجب أن تتوقف الحكومة عندها مليا.. كانت الذكرى السنوية لنظام الرئيس عمر البشير في سنوات مضت لا تمر إلا ويتم فيها الإعلان عن افتتاح مشاريع تنموية جديدة، إلا في هاتين السنتين الأخيرتين حيث أعلنت الحكومة فيهما على التوالي عن إجراءات اقتصادية قاسية تضمنت رفع الدعم عن المحروقات وتحرير أسعار سلعة السكر.. حتى قبل سنتين كان الشعار (لن يحكمنا البنك الدولي) شعارا برّاقا تتأبطه الحكومة السودانية؛ فقد كان شعاراً يحكي احتفاءً وولهاً بالإرادة الوطنية واستقلال القرار الوطني.. لكن مع ذهاب ربيع البترول بانفصال الجنوب الذي استحوذ على أكثر من (70%) منه، بدأت الخرطوم تتبني (روشته) البنك الدولي النمطية باعتبارها (بلسما) و(ترياقا) للأزمة الاقتصادية التي صنعها سوء التخطيط وقصر النظر والعجز عن إدارة عوائد النفط قبل أن يذهب النفط فضلا عن البذخ السياسي اللامحدود والتوسع المخيف في هياكل الحكم الولائي سعيا وراء كسب سياسي قبلي وجهوي، فكانت ما أسمته الحكومة بالإجراءات الاقتصادية تجملا، وهي في الحقيقة روشتة البنك الدولي والتي هي في الأصل غير معنية بالطبقات الكادحة المسحوقة التي أرادت الحكومة تحميلها أخطاءها السياسية والاقتصادية. كلنا نتذكر البيان الأول لعهد الإنقاذ في 30 يونيو 1989 وما أشار فيه قائد الانقلاب (العميد عمر البشير) إلى أن ما دعاه إلى تسلّم السلطة.. في ذاك البيان تم انتقاد حال عهد رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي قائلاً: (عبرت على البلاد عدة حكومات خلال فترة وجيزة، ما يكاد وزراء الحكومة يؤدون القسم حتى تهتز وتسقط من شدة ضعفها).. بيد أنه اليوم لا تمر (6) أو (8) أشهر إلا ويدور الكل لعدة أسابيع في دوامة التشكيل الوزاري الجديد كما هي هذه الأيام بالضبط.. في ذات البيان جاء: (مؤسسات الحكم الرسمية لم تكن إلا مسرحا لإخراج قرارات السادة)، اليوم كذلك يرى الكثيرون أن مؤسسة مثل البرلمان لا هم لها إلا الموافقة غير المشروطة على قرارات الحكومة، مثل القرارات الاقتصادية الأخيرة التي صفق لها النواب في دهشة عقدت الألسن.. كذلك جاء في ذلك البيان: (لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية مما زاد حدة التضخم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال على المواطن الحصول على ضرورياتهم إما لانعدامها أو ارتفاع أسعارها مما جعل الكثير من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة) وهذه حالة ماثلة اليوم في السودان بكل تفاصيلها. حتى الانتعاش الاقتصادي الذي ظهر بعد العام 2004 لم يكن بسبب إنزال شعارات (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) على أرض الواقع ولكن كانت بسبب تدفق عوائد النفط الذي ذهب أدراج الانفصال، فالسودان دولة زراعية من الطراز الأول وكان من المنطقي أن تذهب عوائد النفط مباشرة لإنشاء البنى التحتية للمشاريع الزراعية بدلا أن تذهب في الصرف السياسي البذخي فضلا عن غول الفساد الذي استشرى وابتلع قدراً مقدراً من تلك العوائد وقد بدت في عقارات فخمة ومبان شاهقة تمد ألسنتها لفقراء الشعب.. اليوم لا تجيد الحكومة سوى استخدام الحبوب المخدرة والحلول الترقيعية لمعالجة أزمة الاقتصاد؛ الأسبوع الماضي عقدت الحكومة ما أسمته بالمؤتمر القومي الاقتصادي الذي خرج بتوصيات وصفها خبراء اقتصاديون بالمكررة، بل نظر البعض إليه باعتباره محاولة حكومية لتخدير الشعب وإيهامه بأن هناك عملاً جاداً يجري لإصلاح الاقتصاد.. المؤتمر أوصى المؤتمر بوضع إستراتيجية اقتصادية لخمس سنوات وإنشاء مفوضية لمحاربة الفساد وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي. كما أوصى بإعادة النظر في آليات الزكاة والأوقاف وتشجيع المغتربين على تحويل مدخراتهم إلى السودان، والتأكيد على أهمية دور القطاع الخاص، والسيطرة على أسعار السلع عبر التدخل الحكومي في السوق وهي توصيات قديمة جديدة. لعل القضية التي تهز أركان الدولة في هذه الأيام تشير إلى مدى تفشي الفساد والتخبط واللا مبالاة؛ وهي متعلقة بفشل موسم زراعي كامل لمحصول القمح في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الخبز بسبب شُح سلعة دقيق القمح، وملخص القضية أن الدولة استوردت في نهاية الموسم الماضي تقاوي القمح من تركيا وعندما وصلت الشحنة كان وقت زراعتها قد مضى ولا سبيل لإرجاعها والخيار الوحيد تخزينها لحين الموسم القادم بعد عام كامل رغم عدم وجود مخازن مؤهلة لتخزينها، وعندما قدم الموسم المنتظر (موسم هذا العام) زرع المزارعون التقاوي المخزنة لكنها لم تنبت لأن آفة قد أصابتها بسبب سوء التخزين وبالتالي خسرت البلاد موسمين زراعيين متتاليين، واليوم تتبادل الجهات الحكومية (وزارة الزراعة والبنك الزراعي وأخرى) الاتهامات علناً وترمي باللائمة على بعضها البعض، لا سبيل لحل الأزمة الاقتصادية دون حل الإشكالات السياسية التي تمسك بتلابيب البلاد، ثم من بعد ذلك النظر في الإشكالات الاقتصادية والتي ستستمر مع عدم مصداقية الحكومة في تنفيذ سياسات اقتصادية تخرج البلاد من الأزمة مرتكزة على زيادة الإنتاج والإنتاجية وترشيد الإنفاق الحكومي، ووقف التخبط والعشوائية في التعامل مع المشاريع الاستثمارية وتعدد الرسوم والضرائب مما أدى إلى فقدان ثقة المستثمر الأجنبي في الاقتصاد السوداني.