12 سبتمبر 2025
تسجيلعندما كنت في مرحلة الدراسة الثانوية سألت أستاذي الذي كنت أثق به وكان يقنعني طرحه: متى سيعود حكم الإسلام؟ ثم تركني أسهب في أحلامي وطموحاتي وأتخيل العدل والقوة والإبداعات العلمية والرعايات الاجتماعية وتحرير فلسطين.. ثم لم يزد على أن تبسم وربت على كتفي ثم فاجأتني بل صدمتني عندما قال: أما أنا فأرضى أن يحكمني نظام - أي نظام حتى لو لم يكن إسلاميا – المهم أن لا أكون عبدا للمزاج أو لفوضى وعند ذلك سأكون مطمئنا أننا سنصل للإسلام .. ثم جاءت الأيام وتوالت الأحداث التي أكدت المرة تلو المرة واليوم وراء اليوم أن ما قاله كان عين الحكمة.. وأقول: صحيح أن " حركة النهضة " ذات المرجعية الإسلامية لم تفز بالمقدمة أو بالأغلبية في انتخابات تونس بما يمكنها من تشكيل الحكومة وتقرير حقائق الثورة ومكتسباتها ، ولكن الفارق بين الحركة وبين خصومها من العلمانيين وبقايا النظام السابق ضئيل ( عشرة مقاعد ) ما سيضطرهم – الخصوم – لتشكيل حكومة ضعيفة أو بتحالفات تحد من تفردهم بالسلطة ، وكل ذلك يجعل " النهضة " خصما حقيقيا ومنافسا قويا يضفي على التجربة جدية وعمقا وتأكيدا هو كل ما تحتاجه تونس وثورتها في هذه المرحلة .. وصحيح أن " حركة النهضة " لم تفز بالمقدمة أو بالأغلبية ولكنها صارت أقوى المنافسين ونالت مبررا إضافيا للبقاء والشراكة السياسية ، ولم تستفز أعداءها الذين يملكون قوى الدولة العنيفة والعميقة للانقلاب عليها وعلى الثورة وعلى الديموقراطية .. وفازت إذ أصابت مهلة " ومزيد فرصة " لتجرب ولتتدرب على العمل السياسي ولتتعلم آليات التشريك بين العمل السياسي والعمل الدعوي والأحكام الفقهية .. صحيح أن التونسيين تقبلوا وبضمنهم الإسلاميون بمشاركة فلول النظام الساقط في السياسة وهو ما فتح باب أن يفوزوا أو يتأهلوا سياسياً على خلاف توجهات الثورة وهذا الحد من النقص يؤشر على اكتشافهم عيباً في بناء كل من الثورة والديموقراطية.. ولكن المقايسة ليست في بيئة سياسية صحية ولا هي في ظروف عادلة أو مثالية ! فيصح هنا تحكيم قاعدة ( أخف الضررين ) وهو ما – للأسف - لا يتفطن له بعض الإسلاميين من المستجدين على العمل السياسي ومن المستعجلين والمتزمتين الذين يعملون في المساحات النظرية والعوالم الافتراضية فقط . ويخطئ بل يركب الخطر من يتوهم التغيير والإصلاح وراء الباب، أو يتخيل أن ثورة شعبية يتجمع فيها الغث والسمين والزائف والأصيل ويسابق فيها الخائن الوطني والباحث عن المجد الشخصي الباحث عن العدالة والحرية والتنمية والتغيير والإصلاح.. تستطيع في أيام – كأيام ثورة مصر- أن تستأصل عشرات السنين بل مئات السنين من ضياع الحق والحقيقة، وأن تقف في وجه فساد متوغل واستبداد متغول وتبعية خؤونة ومقننة ظلت ترطم كل صباح ومساء كل مفاصل الدول والمجتمعات التي ما سقط منها إلا رؤوس نظمها فقط.. ويخطئ أيضا من يظن أن قوى الجيش والداخلية والبلطجة والدولة العميقة في بلاد تلك الثورات يمكن أن تقبل عن طواعية بالديمقراطية أو بالحياد بين الثورات التي تقيد سلطتها وتصوب أحوالها وتخضعها للمحاسبة من جهة ونظم بنتها لنفسها وهي ولية نعمتها ومرضعتها .. لمجرد المرور على لحظة صفاء وتوبة أو تحت ضغط ثورة مخلطة . الخلاصة أن تبادل السلطة بين الإسلاميين وخصومهم أكبر وأوسع من المرور إليه بدون مرحلة انتقالية يتقاسمون مسؤولياتها ولا يدفعون أثمانها من رصيد وحدهم ولا يحرقون فيها برامجهم قبل أن ينجحوا في إدارة الحزبية والسياسة الرسمية بقدر نجاحهم في كسب القلوب.. لكن الذي على الإسلاميين أيضا هو أن لا يقبلوا بمعادلة ( القرب من السلطة هو بالضرورة ثورة مضادة وفتنة وانقلاب ) ولا أن تصير للثورة الشعبية ولناتجها من الديموقراطية سقوف تحت الهيمنات الأجنبية والفساد والاستبداد.. آخر القول.. إن لم تفز " حركة النهضة " في تونس بالمرتبة الأولى التي تؤهلها لتشكيل الحكومة فقد فازت بالديموقراطية والشراكة السياسية وبالفرصة السلمية لعرض أفكارها الإصلاحية بقدر ما فازت تونس كلها في تجربة الديمقراطية والدستورية الحقيقية، وفوز تونس بمعارضة قوية جدية، وتجنب تونس فتنة الانقلابات التي لم تعد مضطرة لها ..