15 سبتمبر 2025
تسجيلفي الأسبوع الماضي كتب صحفيان شهيران في صحيفة النيويورك ريفيو أوف بوكس ينتقدان الثورات العربية ويصفانها بلعبة الكراسي الموسيقية التي تتناوب فيها أطراف مختلفة الجلوس على نفس المقاعد من دون حدوث تغيير حقيقي في المشهد الكلي والنهائي، ففي مصر قام الحزب الوطني وجلست مكانه جماعة الإخوان المسلمين، وفي تونس ذهب زين العابدين وحل محله حزب النهضة، وفي اليمن قام علي عبد الله صالح وقعد مكانه عبد ربه منصور هادي، وحتى في قطاع غزة الذي سبق الربيع العربي بانتخاباته البرلمانية، تركت حركة فتح القطاع لحركة حماس لكي تمارس السياسة بنفس طريقة الفتحاويين. والمعنى الكامن وراء هذا الانتقاد أن النخب الحاكمة في دول الربيع العربي، والتي جاءت في أعقاب ثورات كبرى، ترتكب نفس أخطاء الماضي، وتعيد من دون وعي إنتاج الأنظمة القديمة ولكن في إطار ديباجات جديدة. يتسم هذا التحليل بشيء من المبالغة بلا شك، ولكنه في الوقت نفسه يحوي قدرا غير قليل من الحقيقة، فقطاع كبير من الشعوب العربية لا تستشعر تغييرا فعليا، بفعل كون السياسات المتبعة في هذه المرحلة تتشابه إلى حد كبير مع سياسات أنظمة ما قبل الثورات، ومن مظاهر ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، التوجه نحو الخارج لحل أزمات الداخل، الاقتراض من بيوت المال الدولية وكأنها مؤسسات ذات طابع خيري وليست أداة من أدوات الهيمنة، والاعتماد على خطاب سياسي يخاطب العواطف بأكثر مما يخاطب العقل. الأمر الذي يثير التساؤل عن سر عجز النظم الحاكمة في دول الربيع العربي عن تجاوز سياسات الماضي وتبني سياسات أكثر ثورية تتناسب مع طموحات الشعوب في هذه المرحلة. تستعرض هذه المقالة مجموعة من التفسيرات المحتملة لهذه الظاهرة، مع التركيز بدرجة أكبر على الحالات التي نجحت فيها القوى ذات المرجعية الدينية في الوصول إلى مقاعد السلطة. أول هذه التفسيرات يذهب إلى أن القوى التي تولت الحكم بعد الثورات العربية تشكلت خبرتها السياسية أساسا من خلال مجموع ما عايشته واحتكت به من سياسات وأدوات الأنظمة القديمة، الأمر الذي انعكس على طريقتها في ممارسة الحكم بعد أن أصبحت في موقع السلطة، فهي ببساطة لا تجيد إلا ما تمرنت عليه في ظل عهود الاستبداد، حتى انتهى بها الأمر وقد أصبحت غير قادرة على أن تختط لنفسها أساليب جديدة لإدارة الدول التي تتربع الآن على قمتها. التفسير الثاني يذهب إلى أن لعب دور المعارضة أسهل دوما من تحمل مسؤوليات الحكم، وأن القوى الجديدة وإن كانت قد نجحت في موقع المعارضة، بعد أن استخدمت خلفيتها الدينية لإبراز عيوب خصومها، فإنها الآن تشرب من نفس الكأس، وتظهر عاجزة عن اجتياز الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة القديمة، بعد أن تبين لها أن ممارسة المعارضة شيء وممارسة الحكم شيء آخر. التفسير الثالث يذهب إلى أن سقف طموح قوى المعارضة كان منخفضا منذ البداية، فقد كانت غايتها أن تصل إلى الحكم من دون أن تمتلك مخططا عمليا لإدارة الدولة بعد ذلك. ويرتبط هذا بنظرة هذه القوى للأنظمة القديمة من حيث كونها أنظمة فاسدة أكثر من كونها أنظمة فاشلة، ومن ثم فإنها وبعد وصولها للحكم لم تتحرج من استلهام نفس وسائلها مع إضافة بعد أخلاقي عليها فقط لتنقيتها من الفساد الذي ارتبط بممارساتها وليس أكثر من ذلك. التفسير الرابع يذهب إلى أن القوى الجديدة بعد أن وصلت إلى الحكم تحرص كأي جماعة سياسية أخرى على الاستمرار فيه، ومن هنا فإنها تتجنب تبني سياسات ومواقف حاسمة، على اعتبار أن تبنى مثل هذه السياسات ربما يدفع الناخبين المتذبذبين إلى المفاضلة بينها وبين القوى التقليدية، وربما ترجيح كفة الأخيرين. في مصر على سبيل المثال تدرك جماعة الإخوان أن خمسين في المائة من الناخبين لم يشاركوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأن نصف عدد المشاركين قد اختار ممثل النظام القديم، الأمر الذي يمثل قيدا من وجهة نظرهم على تبني سياسات ثورية حقيقية. التفسير الخامس يذهب إلى أن القوى الجديدة تتبنى أسلوب التدرج، ولا تريد اتباع أسلوب الصدمات حتى لا تثير موجة من ردود الأفعال العنيفة من جانب قوى المعارضة الليبرالية في الداخل ومن جانب القوى المتربصة بالخارج، وفي ظل ضخامة المشكلات التي ورثتها عن العهد السابق، لا تريد القوى الجديدة أن تتحول عن نمط الدولة التقليدية إلى نمط مختلف لن يتردد المعارضون لها في وصفه بالنمط الديني الانقلابي. هذا عن التفسيرات المحتملة، ولكن أيا ما كان الأمر فإن المحصلة النهائية أن التراجع عن تبني سياسات ثورية حقيقية والاستمرار في استلهام السياسات القديمة سوف يؤدي إلى تجميد المسيرة السياسية لنظم الربيع العربي، وسوف يظهر الطبقة الحاكمة فيها بمظهر غير القادر على إحداث نقلة كبرى في واقعها المتأزم، والأخطر أنه سوف يفقد الجماهير ثقتها في هذه القوى الحاكمة، الأمر الذي يهدد بعودة الأنظمة القديمة في أقرب استحقاق انتخابي قادم، وحينها سوف ينطبق للأسف التقييم المذكور أعلاه والذي يعتبر الموضوع برمته مجرد لعبة للكراسي الموسيقية.